مسعود أحمد بيت سعيد
Masoudahmed58@gmail.com
لا تزال الدعوات المتكررة التي أطلقها زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان، إلى أنصاره بإلقاء السلاح وحل هيئات الحزب، تثير جدلًا واسعًا وتساؤلات كثيرة حول أسباب هذا التحول الجذري في موقف رجل قاد لعقود واحدة من أكثر الحركات الراديكالية المسلحة تعقيدًا في المنطقة.
ورغم أن هذه الخطوة وصفت بأنها تاريخية، فإن السياق الذي جاءت فيه، والتوقيت الذي اختير لها، يفتحان الباب أمام تحليلات متعددة بشأن مستقبل الحزب ومآلات القضية الكردية عمومًا.
في خطابه الأخير، سعى أوجلان إلى تبرير قراره من خلال رؤية تعكس تحولًا واضحًا نحو إنهاء الكفاح المسلح واعتماد خيار العمل السياسي السلمي الديمقراطي. وأشار -ولو ضمنيًا- إلى أن الظروف لم تعد مناسبة لاستمرار النضال المسلح، معتبرًا أن التمسك بهذا الخيار لن يؤدي إلا إلى إطالة أمد المعاناة، خاصة في ظل ما وصفه بالاعتراف الواسع بالهوية الكردية، التي عدَّها إنجازًا تاريخيًا لا يمكن إنكاره.
وأكد أن المهمة الرئيسية قد أُنجزت، وانتفى بذلك المبرر التاريخي للحزب، بوصفه وسيلة لا غاية بحد ذاتها، خصوصًا بعد التخلي عن فكرة الدولة القومية، مما يضع الحزب أمام مهام جديدة في إطار مغاير. ويرى البعض أن هذا الطرح يستند إلى معطيات راهنة، إلا أن هذه الرؤية ليست جديدة بالكامل، إذ شكلت جزءًا أصيلًا من توجهات أوجلان الفكرية والسياسية على مدى العقود الماضية، ما يشير إلى أنها ليست ناتجة عن ظرف طارئ أو مجرد تحول تكتيكي.
ورغم ذلك، لم يبدد الخطاب حالة الغموض تمامًا، ولم يقدم ضمانات ملموسة تبرر الثقة الكبيرة التي أبداها أوجلان بإمكانية تحقيق الأهداف الكردية عبر الطرق السلمية، خاصة في ظل غياب مؤشرات واضحة على استعداد أنقرة للانخراط في عملية سياسية عادلة تكفل الحقوق الثقافية والسياسية للكرد.
وعلى الصعيد الجيوسياسي، يواجه الحزب تحديات غير مسبوقة في ظل التحولات الحادة التي تشهدها المنطقة، حيث يعاد تشكيل النظام الإقليمي وفق التغيرات المستجدة، فضلًا عن غياب القوى الدولية المساندة للحركات الثورية المسلحة. كل هذه المتغيرات دفعت أوجلان إلى إعادة تقييم موقع الحزب في هذا السياق المتغير، مع إدراكه لصعوبة الاستمرار في المواجهة المسلحة التي تنهك البنية التنظيمية وتعمق عزلة الحزب إقليميًا ودوليًا.
من الجدير بالذكر أن أوجلان، منذ سنوات، بدأ يروج لمفهوم الديمقراطية المجتمعية كبديل نضالي يقوم على الوعي الجماهيري والتغيير السلمي بدلًا من الكفاح المسلح، وهي مقاربة ذات طابع نظري مثالي، تفترض أن تغيير الأفكار يفضي إلى تغيير الواقع، لا العكس، وهو تصور ينتمي إلى الاشتراكية الطوباوية التي غالبًا ما تتجاهل التعقيدات التاريخية والطبقية والاجتماعية في الواقع الملموس.
ويعد حزب العمال الكردستاني أكثر من مجرد تنظيم سياسي تقليدي، فقد تأسس كحركة ذات بنية عقائدية صارمة، استلهمت في بداياتها الماركسية-اللينينية، قبل أن تتطور لاحقًا تحت تأثير مباشر من أفكار أوجلان إلى مفهوم الكونفدرالية الديمقراطية.
وتعد الدعوة إلى التخلي عن الكفاح المسلح، بوصفه إحدى ركائز الحزب التأسيسية، أمرًا بالغ الصعوبة. ومع ذلك، يبدو أن هذا التحول لم يكن قرارًا فرديًا، بل جاء نتيجة مشاورات داخلية معمقة على مستوى القيادة وربما بين القواعد الحزبية، كما يتجلى في سرعة الاستجابة لهذا التوجه، مما يدل على أن الاستعداد للانتقال نحو العمل السياسي قد أخذ وقتا كافيا من التحضير.
بطبيعة الحال، لم يخل خطاب أوجلان من بعد شخصي، تمثل في استعانته بمقولة ذات بعد فلسفي مثل -حرية الفرد من حرية المجتمع، والعكس صحيح- بما تحمل من دلالات مزدوجة؛ فمن جهة أراد التأكيد على مركزية الإنسان في رؤيته الفكرية، ومن جهة أخرى حاول تبرير قراره بالابتعاد عن العنف عبر إطار أخلاقي يستند إلى مفاهيم الحرية والسلام. لكن استخدام هذه المقولة في سياق سياسي محض، بدا في نظر البعض، محاولة لتخفيف وقع القرار على أنصاره، لا سيما أولئك الذين يرون في الكفاح المسلح خيارًا استراتيجيًا لا يمكن التخلي عنه دون أثمان وضمانات واضحة.
لا شك أن الانتقال من العمل المسلح إلى العمل السياسي يمثل تحديًا حقيقيًا لحزب العمال الكردستاني، الذي راكم خبرات طويلة في المواجهة مع الدولة التركية. والسؤال المطروح، هل تملك الدولة التركية الإرادة السياسية الكافية للدخول في تسوية تاريخية متوازنة؟ وهل سيتمكن الحزب من ممارسة العمل السياسي السلمي مع الحفاظ على تماسكه الأيديولوجي والتنظيمي؟ ربما لا يزال الوقت مبكرًا للإجابة الحاسمة، إلا أن المؤشرات الأولية توحي بأن الحزب بات أكثر استعدادًا من أي وقت مضى لخوض تجربة مختلفة، ربما بدافع الضرورة أكثر من الاقتناع الكامل. أما أوجلان، فيدرك أن المبادرات التاريخية لا تقاس بنتائجها الفورية، بل بقدرتها على إحداث تحول استراتيجي في وعي الشعوب واتجاهاتها المستقبلية.