حاتم الطائي
◄ إسرائيل وبدعم أمريكي سعت لرفع علامة نصر زائفة في حربها مع إيران
◄ 12 مليار دولار الخسائر الأولية لإسرائيل في "حرب الأيام الـ12"
◄ رماد الحرب لم ينطفئ.. واشتعال نيرانها سيقود لمآسٍ غير مسبوقة
في الوقت الذي يتباهى فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنَّه "دمَّر" البرنامج النووي الإيراني، مُستخدمًا 12 قنبلة من طراز "جي بي يو-57"- والتي يجب أن تكون محرَّمة دوليًا؛ حيث تزن القنبلة الواحدة منها أكثر من 30 ألف رطل- تتواصل التقارير الاستخباراتية والإعلامية الأمريكية التي تُفيد بأنَّ المفاعلات النووية الإيرانية لم يلحق بها ضرر كبير؛ بل ذهب كثيرون إلى أن القصف الأمريكي الغاشم على المفاعلات الإيرانية لم يكن سوى قصف لهياكل خرسانية لا قيمة لها.
تقييمات أجهزة الاستخبارات التي أوردتها شبكة "سي إن إن" الأمريكية أكدت أن الضربات الأمريكية لم تؤثر على عمليات تخصيب اليورانيوم، ويأتي ذلك بالتزامن مع تأكيدات بأن الإيرانيين نقلوا اليورانيوم المخصب وأجهزة الطرد المركزي إلى مواقع آمنة، قبل أيام من القصف الأمريكي. هذه المعلومات وغيرها مما يتوالى تباعًا تؤكد أن الطرف الأمريكي ومن ورائه الإسرائيلي، قد سعيا فقط إلى رفع علامة نصر زائفة، بعدما نجحت الصواريخ الإيرانية بأنواعها وأحجامها وقدراتها النوعية والمختلفة، في دك مدن الاحتلال الإسرائيلي، مثل تل أبيب وحيفا وبئر السبع وغيرها، وأصبحت المشاهد التي كان يراها الإسرائيلي في غزة، تنتشر في هذه المدن، وظل الإسرائيليون مختبئين في الملاجئ طيلة 12 يومًا، استطاعت إيران فيها ولأوَّل مرة في تاريخ المواجهات مع الكيان الصهيوني، أن تقصف العمق الإسرائيلي، وتُدمِّر البنية التحتية العسكرية، خاصة مقرات قيادة جيش الاحتلال وقيادة جهاز المخابرات "الموساد"، وقيادة جهاز المخابرات العسكرية "أمان"، ومعهد وايزمان للعلوم المعروف بأنَّه "العقل النووي" لإسرائيل.
هذه الحرب- التي بدا للبعض في مُستهلها أنَّ إسرائيل حققت نصرًا على إيران باغتيال عدد من قادتها العسكريين والأمنيين والعلماء النوويين- انقلبت وبالًا وخسرانًا على هذا الكيان العدواني المُجرم؛ إذ لم تتردد إيران في الرد بكل قوة، مُرتكزة على قدراتها العسكرية الهائلة، وتماسكها الداخلي المتين، وهذه نقطة حاولت إسرائيل والولايات المتحدة اللعب عليها، واستغلالها، ظنًا منهما أنَّ النظام الإيراني سيسقط من داخله، وقد استعانت إسرائيل في ذلك بعملاء وجواسيس على الأرض، لكن المؤسسات الإيرانية، التي تُشكِّل "الدولة العميقة"، نجحت بجدارة في الحفاظ على اللُحمة الوطنية، واستمرت هذه اللُحمة حتى بعد انتصار إيران على إسرائيل. ولا شك أنَّ مشهد الجنازات المهيبة التي شُيِّع فيها القادة والعلماء الذين اغتالتهم يد الغدر الصهيونية، أبلغ دليل على تماسك الشعب الإيراني خلف قيادته، إدراكًا منه بأهمية الحفاظ على كيان الدولة من الانهيار، حتى لو اختلف البعض منهم مع السياسات، لكنهم يتفقون على الوطن الإيراني.
خسائر إسرائيل في حربها مع إيران، فاقت كل التوقعات، إذ تُشير تقديرات موثَّقة إلى أن الكيان الصهيوني كان يتكبّد يوميًا مليار دولار أمريكي، ما يعني 12 مليار دولار خلال أيام الحرب، وهذه فاتورة ضخمة لا تستطيع أمريكا الوفاء بها لإسرائيل أو تقديم "خطة مارشال" إسرائيلية على غرار "مارشال الأوروبية" في أعقاب الحرب العالمية الثانية. لذلك نرى أنَّ استعراض ترامب للعضلات الأمريكية، من خلال قنابل "بانكر باستر" الخارقة للتحصينات، ليست سوى إخراج هوليودي عديم القيمة، حاول من خلالها ترامب إثبات أنه صاحب البصمة الأخيرة في هذه الحرب، ودعمًا منه لصديقه مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، لإخراجه من أزمته الطاحنة. لكن ما لم يُدركه ترامب ولا المجرم نتنياهو، أن الإيرانيين أُمة، وليست دولة تضم مواطنين ورعايا، والأُمة تدافع عن حقها حتى آخر رجل منها، لذلك ومع تدخل ترامب وإعلان وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل، لقّنت إيران إسرائيل والولايات المتحدة درسًا لا يُنسى؛ حيث استبقت دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، وقصفت مواقع استخباراتية وعسكرية ومخازن سلاح، وألحقت بها أضرارًا غير مسبوقة.
والوضع الراهن أشبه بمرحلة اللاسلم واللاحرب، فبينما توقفت الصواريخ وربضت الطائرات المُقاتلة في حظائرها، إلّا أن ما يُمكن أن يُدبر في الخفاء، قد يُفضي إلى ما هو أعظم مما شاهدناه على مدى 12 يومًا، ولذلك ربما تعمل إيران حاليًا على تسريع وتيرة زيادة تسليحها النوعي وخاصةً ما يتعلق بالدفاعات الجوية، وقد تواترت أنباء عن صفقات مرتقبة بين إيران والصين، لشراء مقاتلات صينية متعددة المهام، فضلًا عن أنظمة دفاع جوي لمواجهة أي انتهاك للسيادة الإيرانية.
وهنا يجب أن نقف على أبعاد الموقفين الصيني والروسي؛ حيث اعتقد البعض أنَّ كلًا من بكين وموسكو، لم يُبديا رغبة في الدخول في مواجهات غير مباشرة مع الولايات المتحدة، من خلال دعم طهران، عسكريًا، بينما أظهرت الصين وروسيا، دعمًا سياسيًا قويًا للغاية، سواء من خلال البيانات الدبلوماسية المُستنكرة للعدوان الإسرائيلي ثم الأمريكي، أو بتلمحيات عن أهمية تسليح إيران. وليس أبلغ من ذلك، تصريح ديميتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، والرئيس الروسي السابق، بأنَّ إيران قد تحصل على سلاح نووي (رؤوس نووية) من أي طرف، ولا شك أن رجلاً بحجم ميدفيديف لا يمزح ولا يُلقي بالتصريحات جزافًا؛ بل هو يعلم يقينًا ما ينطق به. وهذا يعني أننا أمام احتمالين واردين؛ الأول أن إيران ربما تكون غيّرت عقيدتها النووية، وقررت امتلاك سلاح نووي، ليس من أجل العدوان على أحد، لكن بهدف الردع، وفي ذلك لن تكون إيران قد خالفت فتوى المرشد الأعلى الذي حرَّم استخدام السلاح النووي في الضربات العسكرية. أما الاحتمال الثاني، فيُشير إلى الخطوة التالية، وهي إما تصنيع السلاح النووي، من خلال اليورانيوم المُخصب بنسبة 60% والذي تملك إيران منه حاليًا أكثر من 400 كيلوجرام، وهي نسبة وكمية يقول الخبراء النوويون إنها قادرة على تصنيع سلاح نووي، لكن ليس بنفس كفاءة وقوة تدمير اليورانيوم المُخصَّب بنسبة 90 أو 95%. أو لربما تلجأ إلى شراء السلاح مباشرة من أي دولة نووية، مثل كوريا الشمالية أو الصين أو روسيا ذاتها!
المشهد الضبابي القائم حاليًا، يثير شهية بعض الأطراف لأداء أدوار بعينها، أو لتنفيذ مُخططات؛ فالمنطقة باتت تعيش فوق تنُّور ضخم، يتصاعد اللهب منه ولا أحد يعلم كيفية تفاديه، لكن هناك من يجمع الخيوط ويعُد العُدة لتفجير مُفاجآت، البعض منها مُتوقّع والآخر ربما لا. وهذا التوقعات لا تنفصل أبدًا عن قضية غزة الجريحة، التي ما تزال تنزف دمًا، في مذابح المساعدات، والطحين المعجون بدماء الأبرياء من سكان غزة الأبية. ويؤكد ذلك التسريبات المتتالية عن اعتزام الرئيس الأمريكي الإعلان عن وقف لإطلاق النار في غزة، وتنفيذ هدنة تستمر لمدة 60 يومًا، ومن بعدها يجري الاتفاق على وقف دائم ومستدام لإطلاق النار، بالتوازي مع إبرام اتفاقيات تطبيع أو معاهدات أمنية مع بعض الدول العربية، والمرشح الأبرز في هذا السياق: سوريا.
واختيار سوريا لم يكن عشوائيًا أو اعتباطيًا؛ بل قائم على رهانات محسوبة، تستهدف في المقام الأول والأخير، قطع شريان الإمدادات نهائيًا عن المقاومة في لبنان، وتهيئة الأجواء للتخلص من الحشد الشعبي في العراق بعد ذلك، من خلال كتائب ومليشيات طائفية مسلحة، تتقاتل فيما بينها؛ الأمر الذي سيضمن لإسرائيل مسلكًا سهلًا نحو إيران، إذا ما أرادت أن تُكرر مقامرتها الخاسرة مجددًا.
ويبقى القول.. إنَّ الهزيمة النكراء لإسرائيل في حربها مع إيران، ومحاولات دعم الولايات المتحدة لها والتغطية على هذه الهزيمة، تؤكد أنَّ هذا الكيان الهش ليس سوى نمر من ورق، ويتعين على دول المنطقة الاتحاد والوحدة لمواجهة أي عربدة صهيونية، تستهدف أمننا واستقرارنا، وهو ما يفرض بالتبعية الاعتماد على الذات، وتعزيز الوعي الشعبي بالمخاطر التي تُحدِّق بِنا، والسعي نحو الانعتاق من الهيمنة الأمريكية، التي لا تستهدف سوى سلب إرادة الدول بعد نهب مواردها وخيراتها، وما دون ذلك سيُفضي إلى مزيد من الهزائم النفسية قبل المادية، وسيسمح لثُلة من المتطرفين الصهاينة وتيار اليمين الأمريكي، أن يفرض سطوته على المنطقة، وتنفيذ مخططاتهم لما يصفونه بـ"شرق أوسط جديد"، أشبه بجمهوريات الموز والحدائق الخلفية للقوى الإمبريالية. وفي المرحلة القادمة الخوف كل الخوف من انزلاق بعض الدول العربية في تطبيع مجاني مع الكيان الصهيوني دون إعلان للدولة الفلسطينية حسب مخطط ترامب فيما يعرف بـ"مشروع الدرع الإبراهيمي"، الأمر الذي سيفقد هذه الدول شرعيتها وما تبقى من شعبيتها الفقيرة، ومما سيعرض المنطقة لانفجارات مستقبلية قادمة، ويحرمها من فرص السلام والتنمية، وهذا ما يريده ويطمح إليه أعداء الأمة "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".