الزمن

 

 

د. صالح بن ناصر القاسمي

كم مرّة شعرت أن دقيقة واحدة كانت دهرًا؟ وكم مرة مرّ اليوم بأكمله كغمضة عين؟
ذلك ليس وهمًا، بل هو الزمن كما نعيشه، لا كما نعدّه. الزمن ليس مجرد عقارب تدور، ولا تواريخ تُطوى في التقويم، بل هو حالة شعورية، يسكننا أكثر مما نسكنه. حين نهمس بكلمة "الزمن"، فإن أول من يسمعها هو وجداننا، لا آذاننا؛ فهذه الكلمة لا تُنطق من اللسان فقط، بل تنبع من عمق التجربة، وتتشكل من نبض اللحظة، وارتجاف القلق، وهمس الأمل.
ومع ذلك، ما هو الزمن؟ وهل هو ثابت ومشترك لدى الجميع؟ أم أن له من المعاني ما يختلف بين الناس باختلاف تصوراتهم وتجاربهم؟ ثم هل الزمن هو ما تقيسه الساعات والعقارب، أم أنه أوسع وأعمق من ذلك بكثير؟
وبلا شك، فإن مفهوم الزمن ليس واحدًا عند كل البشر، بل هو شديد الخصوصية. إذ يختلف تعريفه وتقديره من شخص لآخر، بحسب نظرته للأشياء، وتفاعله مع الأحداث، وتأملاته الخاصة، وتوقعاته التي يبنيها في داخله. فهناك مَن يرى في الزمن نعمة متدفقة لا تتكرر، وهناك مَن يراه قيدًا يحاصره، بينما هناك مَن لا يشعر به أصلًا إلا حين تضيق عليه الحياة.
فنحن لا نعيش الزمن كما هو، بل نُعيد تشكيله وفق الصور التي نرسمها في أذهاننا. ولكل واحدٍ منا زمنه الخاص الذي يسكنه ويتلبّسه، حتى وإن كنا جميعًا نقف على أرض اللحظة نفسها، ونعدّ الثواني والدقائق ذاتها. فذلك الزمن الذي نعيشه ليس قالبًا جامدًا، بل مرآة شفافة تعكس ما نمرّ به من حالات شعورية.
وفي جوهره، فإن الزمن ليس حياديًا، بل يتلون بمشاعرنا. فالحزن يجعل الساعة دهرًا، والفرح يجعل اليوم ومضة. كما أن الألم يجعل الليل طويلًا موحشًا، بينما السعادة تسرق منا النهار بسرعتها الخفيفة. فالإنسان لا يحيا الوقت كما هو مسجَّل في جداول التوقيت، بل كما يشعر به في داخله، ولذلك فإن الزمن ذاته قد يبدو رحيمًا للبعض، وقاسيًا لغيرهم.
فمن الناس مَن يعيش في شعور زمني رائع، تغمره السكينة، ويملؤه الفرح، ويظن أن مَن حوله يشاركونه تلك الحالة النقية. ولكن في اللحظة نفسها، هناك مَن يتألّم بصمت، ويعيش وجعه الخاص ولا يجد مَن يلتفت إليه. فالزمن ذاته، والمكان ذاته، إلا أن النفوس متباينة؛ لذلك فإن الزمن لا يكون زمنًا واحدًا.
وبهذا، تتكرر التجربة مع بقية الحالات الشعورية، مثل الحزن، والألم، والقلق، وحتى الانتظار. فهذه المشاعر لا تكتفي بأن تسكن القلب، بل تخلق زمنها الخاص داخل الإنسان. فثمة مَن ينتظر لحظة، فيراها دهرًا، وثمة مَن يحيا ساعات الألم وكأنها قرون.
لذا فالزمن إذًا ليس كمًّا فحسب، بل هو كيفٌ داخلي، وعمق وجداني، وامتداد روحي يتصل بوجدان الإنسان أكثر مما يتصل بعقارب الساعة.
ومن أجل توضيح هذه الفكرة، يمكننا أن نستحضر الحديث القدسي الشريف، الذي رواه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عن رب العزة جل جلاله: "لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر". ففي هذا الحديث نجد دعوة عظيمة لفهم الزمن على نحو أعمق، إذ إنه ليس عدوًّا ولا خصمًا، بل هو وجه من وجوه تدبير الله تعالى. فالله هو الذي يصرّف الأزمنة، وهو الذي يقدّر السعادة والألم، والفرح والحزن، وكل التفاصيل التي نحياها.
ومن هنا، فإن هذا المعنى يجعلنا أكثر تسليمًا ورضًا بالقضاء والقدر، ويعلّمنا ألا نحمل الزمن ذنبًا لا يملكه، وألا ننظر إليه وكأنه المتسبب في تعاستنا. فالزمن في حقيقته لا يظلم أحدًا، وإنما نحن الذين نغرق في حالاتنا فنحمّله وزر ما نشعر به.
وعند هذه النقطة بالتحديد، يكمن ما نود التأكيد عليه: أن الزمن ليس حالة خارجة عن الإنسان، بل هو حالة شعورية تتلون بتلوّن ما في داخله. فعندما يشعر الإنسان بالرضا، يتسارع الزمن وكأنه يطير، وعندما يشعر بالضيق، يتمدد الوقت وكأنه يأبى أن يمضي.
ويجب على الإنسان أن يدرك أنه - في كثير من الأحيان - هو الزمن ذاته، وأنه يشكّل لحظاته من الداخل. فما يمرّ به لا يعدو كونه انعكاسًا لتلك الحالات الشعورية التي تغلّفه، وتحيط به، وتؤثر على نظرته لكل ما حوله. وعندما يتصالح مع ذاته، ويعيش حالة التسامح مع نفسه، ويهذب مشاعره، فإنه بذلك يُعيد ترتيب الزمن في قلبه، ليصير أكثر اتزانًا، وهدوءًا، وقدرةً على التفاعل بإيجابية مع تقلبات الحياة.
ففي الحقيقة، الزمن ليس خصمًا يجب الانتصار عليه، ولا مطاردةً يجب اللحاق بها. بل هو فرصة لفهم الذات، وللتماهي مع لحظات الحياة دون مقاومة، دون قسوة، ودون نكران لواقعنا الشعوري.
ولهذا، فليكن تعاملنا مع الزمن تعاملَ مَن يدرك بأنه يتشكل فينا، لا خارجنا، وأنه أقرب إلينا من دقات الساعات، لأنه نتاج ما نحمل من سلام أو اضطراب.
وعليه، فإن أعظم ما يمكن أن نكسبه ليس المزيد من الوقت، بل المزيد من الوعي بكيف نحيا ذلك الوقت، وكيف نحوله من مجرد دقائق تمضي، إلى لحظات تُثمر فينا نضجًا وطمأنينة وسكونًا.
فلندرب أنفسنا على أن نعيش الزمن كما ينبغي، أن نحتويه، لا أن نخافه، أن نتأمله، لا أن نشتكي منه، وأن نسير معه بحكمة، لا برغبة عمياء في تجاوزه.
لأننا - إن لم نصنع زمننا كما نشاء - فسيصنعنا كما يشاء، وتلك معركة قد نخسر فيها معنى الحياة، إن لم نكن فيها واعين لحقيقتها.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة