قصة قصيرة

الحب في زمن التوباكو (7)

 

مُزنة المسافر

 

ماتيلدا: في الضَّيعة التي كُنَّا نعيشُ فيها يا جولي، لم يكن الفقر عيبًا، أو وصمة عارٍ على جبين أحد، كُنا نرى فيه اختبارًا سماويًا، وكُنا نعيشُ اليوم، نفرحُ بكل عطايا الرَّب، ونخجلُ من مطالبنا الكثيرة، لكن كنتُ دومًا أخبرُ نفسي ماذا لو لبَّتْ لي السماء هذا وهذا وذاك، سأكونُ سعيدة!!

كان لنا في الضيعة، راهبٌ، وحكيمٌ، وحاكمٌ، وكنُا نستمعُ للجميع، كلٌ له وجهة نظرٍ، وبعضهم كان يشكو ضيق حاله للراهب، أو يبحث عن علاجٍ ما عند الحكيم، أو يقضي أمرًا مُستعجلًا لدى الحاكم قبل أن يُغادر إلى البلدات الأخرى أو إلى المدينة العريضة.

تعرفين يا جولي.. أنه مع الوقت تشعرين بالنوايا الصافية، لكنها تنجلي وتختفي حين يأتي المال، وتطغى المصلحة، وتتدخل الوجاهة وتسود على كل ذلك، كنتُ أغفلُ- يا ابنة أخي- أن العالم الحَيّ هو عالم مُتحرِّك على الدوام ينبضُ بالحركة، وليس على وفاقٍ أو وئامٍ كما كانت ضَّيعتنا التي رأيتُ فيها النور لأول مرة، وكنتُ أشعرُ مع خطوات رجلي المُتثاقِلة أن أصعد التَّل أو أغفو فوق عُشب المرج، ولم يكن لي أي نيّةٍ في العودة.

كان سوط والدي- ألا وهو جدك- يعذبني بين فينة وأخرى، كان يعاقبني إن أكلت الكعك أكثر من اللازم، وإنْ قلتُ كلامًا فارغًا، أو مشيتُ حافية القدمين، وقدماي يغطيها الطين، فتتسخ الأرضية الخشبية التي كانت ناصعة ولامعة في عينيه فقط.

لكنها كانت متهالكة ومتآكلة، كانت نشوة الذهاب إلى الضياع تعجبني، وكنتُ أرى طرقًا كثيرة لأهرب، وكنتُ أجدُ نفسي أُغني للريح، وأُغني للهواء المُختلِط بمشاعري، وكان كل يوم في عيني يوم جميل وجدير أن يقول بنسيان العذاب، وبرمي السراب للأمس، كنتُ أُحبُ هذه الطفولة وأُريدُها أن تستمر، لكنني أيضًا رغبتُ أن أكبر لأستقل، وأشعرُ بنفسي عزيزةً وغير وحيدة، يحيطها جمهور صلب الإرادة، يود أن يستمع لصوتي، وأن يرى أول أسطوانة لي.

ترددتُ كثيرًا لأسجل صوتي على القطعة الدائرية، لكن انتشار الحاكي أو الجرامافونات (أجهزة تسجيل وتشغيل) ساعدني أن أسجل أول الأغنيات، مع مندوب كان قادمًا من المدينة، يبحث عن أصواتٍ جديدة، ومواهب عديدة، وكان يريد مني أن أغني أمام الناس، وأن أظهر بفستان متواضع في مقهى الضَّيعة، وأغني أمام الحكيم والحاكم وربما قد يمر من هنا الراهب، ويجدني أغني للريح وإلى اللحن الصريح.

عرف والدي أنني سأُغني، لم يكن سعيدًا البتّة في الوهلة الأولى، لكنه لاحقًا أدرك النقود التي كنت سأحصلُ عليها، وأن كل شيءٍ بثمن، حينها فقط لم يعترض، وقال إنه سيكون معي في رحلة البلدة، وسيكون حاضرًا في كل تسجيل الأسطوانة المُطوَّلة.

اعترضتُ، أبيتُ، ورفضتُ، لم أسمح له أن يشاركني شيئًا، قلتُ له إن التركيز مهم للغاية، وإن الحياة أعطتني هذا وإنها فرصة العمر وعليَّ أن آخذها بنفسي.

جوليتا: وماذا حدث؟

ماتيدا: في فجرٍ كان يقول بغسقٍ باردٍ، خرجتُ مع المندوب في سيارة أجرة، وذهبنا لمكان يُطلق عليه أستوديو بعد أن عبرنا كل ما يتعلق بطفولتي من تلٍ، ومرجٍ، وبركةٍ.

جوليتا: وماذا أيضًا؟

ماتيلدا: تركتُ كل شيء ورائي، لأحقق الحُلم الذي جئتُ لأجله في هذه الحياة!

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة