الطرق الآمنة لمُعالجة ملف الباحثين عن عمل

 

 

د. عبدالله باحجاج

عنوان المقال أعلاه يعني في المُقابل أنَّ هناك طرقًا غير آمنة في مُعالجة ملف الباحثين عن عمل، وهذه ينبغي تجنبها، والتركيز على الطرق الآمنة، ومعيار الحكم على الطرق- سواء آمنة أو غير آمنة- مرجعيتنا فيه التجارب التاريخية، والمُتغيِّرات والتحوُّلات الجيوسياسية، وكذلك المُعطيات الداخلية الحديثة، وكل من يُعطي نفسه الوقت، ويملك الوعي بها، سيتمكن بسهولةٍ من تحديد الطرق الآمنة ونقيضاتها في حل ملف الباحثين عن عمل، وهي التي تدفع بنا إلى كتابة هذا المقال، في ظل خيارات حديثة تُراهن على الخارج، ليس نوعيًا وإنما كميًا أيضًا، ونخشى التوسُّع في الرهانات على التشغيل الخارجي، رغم وجود فرص العمل مُجمع عليها- كما سيأتي لاحقًا- وهنا الغاية من هذا المقال، وهي تصويب الخيارات الحديثة، وجعلها على الأقل نوعية، مع التحذير من المسار الكمِّي.

وبالتالي.. يُشكِّل هذا المقال الاهتمام الوطني بالطرق الآمنة لحل ملف الباحثين عن عمل، وقد تناولنا الكثير منها في مقالات عديدة، وآخرها 3 مقالات بالعناوين التالية: السياقات العالمية لملف الباحثين عن عمل، ومرئيات للحل الآمن للباحثين عن عمل، ومبادرات غير تقليدية في قضية الباحثين عن عمل. إلّا أنَّ الظرفية الزمنية الراهنة تقتضي مَنَّا تجديد أطروحاتنا لمُخاطبة الوعي الجديد الذي خرج لنا بخياراتٍ خارجية ذات توجهات ثابتة. ورغم أن إعادة طرحها غاية في ذاتها، إلّا أننا سنُحدِّثُها بمرئيات مُستجدة تُعزِّز الخيارات الوطنية الداخلية، وتكشف حاجة تنميتنا المُعاصرة واقتصادنا المستقبلي لكل أبناء الوطن، بمن فيهم أصحاب الكفاءات والخبرات.

والطرق الآمنة لقضية الباحثين عن عمل هي:

أولًا: إعادة تأهيل الآلاف من الباحثين عمل من أصحاب التخصصات العلمية؛ لكي يُواكبوا التقدم التقني المتطور بصورة فعّالة؛ حيث إن مخرجات آخر سنتين ينبغي أن تخضع لفترة تدريب وتأهيل متخصصة في اقتصاد المستقبل، الذي يرتكز على الصناعات المتقدمة القائمة على العلوم والتكنولوجيا؛ فالحاجة الوطنية المُلحَّة تُحتِّم الاستثمار بشكل مُتزايد وكميٍّ في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الحيوية، والتصنيع التراكمي المتعدد الأبعاد.. إلخ، وبالتالي نحتاج للعدد الكَمِّي لموارنا البشرية في تلكم المجالات المُهمة.

وهناك سباق إقليمي كبير في هذه المجالات، وقد قطعت فيها دول المنطقة أشواطًا كبيرة وعميقة، وينبغي على بلادنا أن تُواكِب هذا السباق- نوعيًا وكميًا- ويُصاحب هذا التنافس استقطاب المواهب والعقول، وستزداد وتيرة هذا الاستقطاب خاصة من قبل الدول التي تفتقر للعدد الكمِّي للديموغرافية الوطنية، وقد تجدها في ديموغرافيتنا العُمانية بعد ما أصبح داخلنا يُؤسِّس لما يمكن اعتباره حقبة هجرة الكفاءات والخبرات، وفَتحُ هذا الباب ينبغي أن يُدرَس من كل النواحي بعيدًا عن ضغوط ملف الباحثين عن عمل.

ونقترحُ هنا تأسيس صندوق مالي لهذا الغرض، تشارك فيه الشركات الحكومية والخاصة والمؤسسات الوقفية، من أجل إعادة تأهيل المخرجات في مؤسسات وشركات كبرى لكسب الخبرات والمعرفة في المجالات التي تُؤسِّس الان اقتصادنا المستقبلي، وفي الوقت نفسه توطين شركات تقنية وتكنولوجية عالمية ومنحها إغراءات بشرط التوطين، وتأهيل كوادرنا العُمانية بنسب مئوية تحكمها الاستشرافات المستقبلية لحاجة اقتصادنا الوطني الجديد- كما سيأتي لاحقًا.

ثانيًا: التدريب المقرون بالتشغيل.

ثالثًا: التدريب المقرون بالإحلال.

وكانت لوزارة العمل خطة تستهدف توظيف 26 ألف باحث عن عمل في عام واحد وهو 2021، من خلال هاتين الآليتين من مختلف المستويات التعليمية مع مِنَحٍ ماليةٍ شهريةٍ لكل مُتدرِّب، وخصَّصَت لها 20 مليون ريال، ومدة التدريب تتراوح بين سنة و6 أشهر، و3 أشهر.. إلخ، والتشغيل والإحلال يكون محل العاملين الوافدين في القطاعين الحكومي والخاص، وقد تناولناها في إحدى المقالات سالفة الذكر.

هذه هي المسارات الآمنة والمُطمْئِنة لمستقبل الديموغرافية العُمانية من جهة، ولمستقبل اقتصادنا الوطني الجديد من جهة ثانية، فلا ينبغي أن يتشتت تفكيرنا على خيارات أخرى تكتنفُها مجموعة تحديات كبرى- هي معلومة بالضرورة- وقد أشرنا إليها سابقًا، خاصةً وأن الفرص في بلادنا كبيرة، وتستوعب الأعداد الباحثة عن عمل كلها، فلماذا نلجأ إلى الخارج؟

اللجوء للخارج يُبقي على الاختلال والتلاعب بالوظائف في الداخل، وقضايا التلاعب والاختلالات قد أصبحت من المُسلَّم بها، وهناك توجيهات سامية وردت في تقرير جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة الصادر في أكتوبر 2024، بضرورة قيام وزارة العمل باتخاذ الإجراءات اللازمة- وبشكل عاجل- لوضع حد لتجاوزات الشركات وتهرُّبها من تطبيق سياسات تشغيل وإحلال المواطنين، وتصحيح الوضع القائم حاليًا في شركات القطاع الخاص والشركات الحكومية، وذلك وفق مقترحات جهاز الرقابة المالية والإدارية، وقد تناولناها أيضًا في مقال سابق.

وعندما قرأنا تقرير اللجنة المُؤقتة المعنية بملف الباحثين التي شكَّلها مجلس الشوري، ورُفِعَ إلى المقام السامي- حفظه الله- تعرَّفنا على حجم التلاعب في سياسات الاحلال والتعمين والتوظيف، وقد قَدَّرَ التقرير حجم الوظائف في حالة القضاء على ظاهرة التلاعب والاختلالات بنحو 100 ألف وظيفة. وهنا نتساءل: هل سيبقى هناك باحث عن عمل لو تم تنفيذ التوجيهات السامية ومرئيات مجلس الشورى؟

من هنا نرى أن الخبرات والكفاءات أولى بها اقتصادنا الوطني الواعد، وهذا لا يعني إغلاق أبواب الخارج، ولكن كخيارٍ نوعي وليس كمِّي، وكمسارٍ طبيعي وليس اعتباره إنجازًا!

والمتأمل في نجاح بلادنا في جذب الاستثمارات وإقامة الشراكات الاقتصادية مع الدول الشقيقة والصديقة، يتأكد أنها ستُنتِج بدورها فرص عمل متجددة، كمية ونوعية، وكل مُتابِع للزيارات السلطانية السامية الإقليمية والعالمية، وجهود الدبلوماسية العُمانية، وجهاز الاستثمار العُماني، سيقف على حجم هذا النجاح الكبير. ومن هنا، يتوجَّب القول إنَّنَا نحتاج لكيانٍ مستقلٍ يُخطط لفرص العمل وماهيتها الناجمة عن المشاريع والاستثمارات والشراكات الجديدة، ويعمل في الوقت نفسه على استحقاقاتها الوطنية في الآجال الزمنية المُستحَقَة والمرتبطة بالمخرجات السنوية، كما فعلت دولة الكويت عندما حددت كوتة (حصة) من فرص العمل لمخرجاتها في مصفاة النفط في الدقم، ولا شك أنَّ إقامة هذا الكيان المستقل ضرورة لإدارة ملف الباحثين، وجعله في المستويات الآمنة.

ومن بين الطرق الآمنة، التقليل من فكر البحث عن فرص عمل بالحد الأدنى للأجور، وهو 325 ريالًا؛ حيث إنَّ إلزام كل سجل تجاري حتى لو كان صاحب العمل وافدًا سيُكرِّس الخلل في مستويات الأجور في البلاد، فهناك عمالة وافدة- بمسمى مستثمرين- افتتحوا محال صغيرة بالكاد يحققوا أرباحًا منها، إلّا إذا كان الهدف من هذه الخطوة إغلاقها، أي تصحيح خطأ إداري سابق؛ إذ إن الدُخُول/ المرتبات الضعيفة لا يُمكن من خلالها الرهان على حصانتها من الاختراقات أو تسييسِها في حقبة التحولات الجيوسياسية والأطماع الجغرافية، وانتشار الكثير من الظواهر، كظاهرة المخدرات.. إلخ.

الأكثر قراءة