الطليعة الشحرية
فقأت الصين ثقافة الاستهلاك، واستيقظ العالم على مقاطع رشقات المصانع الصينية التي تفضح أكذوبة البراندات (العلامات التجارية الشهيرة) وأكثر المتضررين هم المُؤثرون.
ثقافة الاستهلاك التي سادت مجتمعاتنا ولَّدت نوعًا من الهوَس النفسي لارتباط الماركة (العلامة) بمقاييس اجتماعية تعتمد على المظهر الخارجي كدلالة على فخامة الشخص ومستواه الاجتماعي. لم تتضخم فقاعة الهوس عبثًا؛ بل هي نتاج لدراسات وسياسات ممنهجة تقيم فيها الشركات العالمية نفسيات المستهلك وتُحدد احتياجاته وتبيع له تلك الاحتياجات.
وعندما نسترجع "هرم ماسلو للاحتياجات"، نجد أن الإنسان لا يمكن أن ينتقل للاحتياجات النفسية "تقدير الذات" إلا بعد أن يشبع الاحتياجات الفسيولوجية أو الأساسية من مأكل ومشرب وخلافه، فكلما اتسعت الطبقية بأي مجتمع كلما زاد المهووسون والمتعلقون بالماركات والتي قال عنها البعض إنها كذبة تسويقية، صنعها الأذكياء لسرقة جيوب الأغنياء، فصدقها السذج من الفقراء".
ويمكن لنا من هنا فهم اندفاع أبناء الطبقة الوسطى إلى حيل دفاعية أو ما يسمى بالتسامي لإطفاء رغباتهم واحتياجاتهم النفسية.
وقد دغدغت العلامات التجارية المشاعر المهزوزة باستخدامها الإعلام الموجه لسلب جيوب السذج وأصحاب الشخصيات المهزوزة بحملات دعائية مركزة عن طريق مشاهير الإعلام الحديث أو باستخدام المشاهير من لاعبين وفنانين بعمل حملات منظمة بمواقع التواصل الاجتماعي وبالمطارات والتليفزيونات.. إلخ، من أجل امتصاص جيوبهم والتمادي في زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتوسيع الهوة بينهما.
تعتمد العلامات التجارية العالمية على الحملات الدعائية الضخمة والتي تلعب على مخاطبة النفس البشرية طوال الوقت وإقناعها بأنَّها عنوان للشخصية من خلال التميز والتفرد والجاذبية في حال شراء هذه الماركات.
استثمر بعض مؤثري منصات التواصل الاجتماعي مبالغ ضخمة في اقتناء حقائب من علامات تجارية عالمية يحتاج فيها المرء إلى دخول قائمة الانتظار الطويلة ليتمكن من اقتناء حقيبة فاخرة.
ولتعصف بالأمس زوبعة صينية تهز عروش العلامات التجارية الكبرى فالحقيبة التي تبلغ أسعارها أحيانا أرقاما فلكية، وتطول قوائم الانتظار للحصول عليها لتصل إلى فترات بين عامين و6 أعوام، ما يدفعنا للتساؤل هل قامت العلامات التجارية العالمية بتسويق أمراضنا ومشاكلنا الشخصية؟ وإعادة تدوير تلك الأمراض النفسية وبيعها كمنتج.
فضحت حرب التعريفات التجارية جشع العلامات التجارية وعرَّت مجتمع المؤثرين المتكسبين من الترويج لماركات ومنتجات الأزياء على منصات التواصل الاجتماعي، وهم ضحايا الاحتياج ومستغلون لاحتياج الآخرين.
صُمِّمت العديد من منصات التواصل الاجتماعي عمدًا لتكون مُسبِّبة للإدمان، فهي تُنشِّط مركز المكافأة في الدماغ عن طريق إفراز الدوبامين، وهو "مادة كيميائية تُشعر بالرضا" وترتبط بالأنشطة الممتعة كالجنس والطعام والتفاعل الاجتماعي.
وبدون التعرُّض المُنتظِم لهذه المُحفِّزات، قد يُعاني الناس من أعراض الانسحاب، فلا عجب أنَّ الاستخدام المُفرط لوسائل التواصل الاجتماعي يزيد من احتمالية الإصابة بالقلق والاكتئاب والشعور بالوحدة. وينبغي على كلٍّ من المُؤثرين والمتابعين إدراك عوامل الخطر هذه.
أصبح التأثير نشاطًا تجاريًا مُربحًا، لذا تعتمد العلامات التجارية الفارهة على مجموعة من المؤثرين لتسويق رغبات واحتياجات الأفراد وخلق حالة من الهوس الممنهج وبغض النظر التأثير السلبي للانفصال بين صور وسائل التواصل الاجتماعي والواقع، ولكن ما تقوم به العلامات التجارية الكبرى هو المساعدة في ضخ أكبر عدد من المؤثرين واستغلال الديناميكيات السامة لحالة "التأثير" لخلق أكبر شريحة من القطعان.
يميل البشر إلى التصرف بطريقة جماعية متشابهة، وغالبًا ما يُشار إليها بالتصرف كـ"قطيع". ويلعب التسويق المؤثر دورًا مباشرًا في الرغبة الفطرية لدى البشر في الانتماء إلى مجموعة ويصبح جزءًا منها. ويستغل المؤثرون عقلية القطيع هذه، وكما هو الحال مع الحيوانات في القطيع، يشعر المتابعون بأمان أكبر عند اتخاذ قرارات تتوافق مع الرأي العام.
ويُعدّ وجود جمهور كبير دليلًا على خبرة المؤثر ومصداقيته، وذلك ببساطة لأن الكثيرين وافقوا على ما يفعله. ونتيجةً لذلك يختلط الحابل بالنابل فنجد مؤثرين ذكورا يقدمون نصائح في فن المكياج ولهم متابعين إناث ويعتمد رأيهم لمصداقيته.
قد يحث وَهْم السيطرة، الأفراد على اختيار الاشتراك في القنوات أو متابعة المؤثرين الذين يهتمون بهم، خلافًا للإعلانات المتطفلة والمزعجة التي تظهر على المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي، لا تُفرض حملات الترويج للمؤثرين، بل يختارها المستهلكون بأنفسهم.
ومما يُعزز سمة إنسانية أساسية، حيث يُفضل الناس أن يكونوا متلقين فاعلين بدلًا من أن يكونوا متلقين سلبيين، ويرغبون في مستوى أساسي من السلطة والتحكم، يعتقد المتابعون أنهم يتحكمون في قرار متابعة مؤثرين معينين والمحتوى الذي يتفاعلون معه.
كلنا مصابون بـ"الفشخرة" وقد حوَّلت العلامات التجارية المُصاب إلى المعاناة من اضطراب نفسي هَوَسِي. نعم نحن نحب الظهور والتميز بمظهر لائق ولا يعني ذلك الإغراق في احتياجات نفسيه تدفعنا نحو جنون مهوس لإشباع رغبات شخصية أو مادية أو اجتماعية.
وهنا تأتي قدرة الإنسان الطبيعي على التكيف مع هذه الظروف وتحقيق التوافق المطلوب والعيش بحسب قدراته؛ لأنَّ التكيُّف مع وضعه المادي يحمي حاضره ومستقبله. إلا أن البعض قد يصاب بحالة نفسية لا يستطيع التكيف معها مع ما يراه حوله من مغريات ومظاهر ثراء وتفاخر و"فشخرة" فيصاب بالإحباط والكآبة.
ونتيجة لقلة الوعي وثقافة المجتمع التي أصبحت تركز على المظاهر بشكل كبير، يتحول تفكيره نحو البحث عن حلول مؤقتة وتعتبر حيلًا دفاعية حتى يظهر بالشكل الذي يتمناه فيظهر مثلًا كرجل ذي شخصية مهمة من خلال لبسه وسيارته ورقم هاتفه المميز، لنكتشف بعد ذلك أنه شخص مديون ودخله محدود.
ولن يُحقق هذا الشخص الرضا المطلوب لأنَّ سعادته مؤقتة وسيعيش حالة من التوتر والاضطراب لأنه لا يعيش واقعًا حقيقيًا مشبعًا؛ بل هو يعيش حالة من خداع النفس.
شكرًا للصين التي فقأت الثقافة الاستهلاكية وعلينا قمع حالة التأثير الممول وفهم الاحتياجات النفسية بدل من أن تسوقها وتبيعها لنا العلامات التجارية العالمية على شكل حقيبة مصنوعة من أفخر الجلود وأجود الخامات بأيدي عاملة ومصانع صينية.