"السابقون السابقون"

 

د. سالم بن عبد الله العامري

في زحام الدُنيا وضجيجها، هناك فئة من البشر لا تشغلهم الأرض عن السماء، ولا تغريهم الدنيا عن المسير إلى الله، هم الذين تسابقوا إلى الطاعات، فسبقوا، وتسارعوا إلى مرضاة الله، فاستحقوا المنزلة العظمى. هؤلاء هم "السابقون السابقون"، الذين ذكرهم الله في محكم كتابه بقوله: "وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَٰئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ" (الواقعة: 10-12).

لكن من هم هؤلاء السابقون؟ وما الذي أهلهم لهذه المرتبة الرفيعة؟ وكيف يُمكن للسائر إلى الله أن يلحق بركبهم؟

إذا تأملنا في معاني هذه الآية، نجد أنَّها لا تقتصر على مجرد السبق الزمني، وإنما تحمل معنى السبق في الدرجة والفضل، فهم الذين تجاوزوا حدود العبادات التقليدية، وساروا إلى الله بروح ملؤها الشوق، وقلوب تضيء بنور اليقين، وأعمال ترتقي بهم إلى معارج القرب. لا تعيقهم المغريات، ولا تثنيهم الصعاب، قلوبهم مُعلقة بالسماء، وأرواحهم متلهفة للقاء ربها، يتسابقون في مضمار العبودية، لا يلتفتون إلى الوراء، ولا يبطئون الخطى.

وقد اختلفت التفاسير في تحديدهم، فمنهم من قال: هم الأنبياء وأولياء الله المقربون، الذين كانت حياتهم كلها لله، فانطبقت عليهم أعلى معاني السبق ومنهم من قال هم الصحابة الذين بادروا إلى الإيمان حين كذّب الناس، وضحّوا حين جبُن الآخرون، وأعطوا حين أمسك غيرهم. ومنهم من قال هم كل عبد أخلص لله، وأقبل عليه بقلب سليم، وانطلق في ميادين الخير لا يبتغي إلّا وجهه الكريم. وما يجمع بينهم جميعًا هو أنهم لم يكن لهم في الدنيا تعلّق يعوقهم عن الله، وإنما كانوا أهل صدقٍ ويقينٍ، سائرين إلى الحق بإخلاص وتجرّد. استقاموا على الطاعة ولم يعرفوا الفتور، وتسابقوا إلى الخيرات كما يتسابق العطشى إلى الماء، قلوبهم بيضاء لم يشب إخلاصهم رياء، ولم يدنس يقينهم شك، فكانوا بحق أهلاً للقرب، ولم يكن سبقهم في العبادة فقط، بل سبقوا في الصبر، والجهاد، والإحسان، واليقين، والصدق؛ فلما كانت همتهم عالية، ومقاماتهم سامية، رفعهم الله إلى منزلة لا تضاهيها منزلة، وجعلهم في "جنات النعيم"، في مقعد صدق، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين.

ولكي تسير على خُطاهم أيها القارئ العزيز: اجعل قلبك معلقًا بالله دائمًا، ولا تكتفِ بالمألوف من الطاعات، بل زد عليها حبًا وسعيًا. كن سريعًا إلى الخيرات، لا تنتظر، ولا تتردد، فاللحظة التي تضيع قد تكون هي اللحظة الفاصلة بينك وبين مقام السابقين. طهر نيتك، واجعل كل عملك لله، فالسابقون لم يكونوا الأكثر عددًا في العبادات فحسب، بل كانوا الأخلص نيةً والأصدق قلبًا.

لا تنظر إلى من هو دونك؛ بل اجعل أنظارك دائمًا معلقة بمن سبقوك، وأطلق لنفسك العنان للحاق بركبهم؛ فالسابقون السابقون لم يكونوا خارقين؛ بل كانوا بشرًا مثلنا، لكنهم عرفوا قيمة العُمر، فاستثمروه في طاعة الله، وأدركوا أن الحياة الحقيقية ليست هنا، وإنما هناك، حيث القرب والنعيم المقيم؛ هؤلاء السابقون لم يكن سبقهم عشوائيًا، بل كان ثمرة يقينٍ وإخلاص، وجهادٍ متواصل مع النفس، وحرصٍ على اغتنام اللحظات قبل فوات الأوان؛ فالسباق إلى الله لا ينقطع، وأن المقاعد في رحابه لا تُحجز إلا بالجهد، والإخلاص، والتجرد عن كل ما يثقل الروح عن التحليق؛ فكل إنسان لديه فرصة أن يكون من السابقين إذا أخلص لله وسارع في فعل الطاعات، وعمل الخيرات.

في الختام.. يبقى السباق إلى الله أعظم سباق، لا يفوز به إلّا من سَمَتْ همته، وصَفَتْ نيته، وجاهد نفسه في طريق القرب والرضوان؛ فطوبى لمن حمل مشعل السبق، وارتقى في مدارج السائرين إلى رضوان الله، فظفر بالنعيم الذي لا يزول، ولم تشغله الفانية عن الباقية، فحاز رضوان الله قبل أن يُغلق الباب، ويفترق السائرون بين المقربين والمحرومين؛ فلنستلهم من سيرتهم العطرة العزم والمثابرة، ولنحرص على أن نكون من السابقين في أعمال الخير، علّنا نحظى بمكانة عند الله يوم الفصل والحساب؛ فالطريق لا يزال مفتوحًا، والسباق لم ينتهِ، والفرص تُمنح لمن يشاء أن يسابق، فهل نرضى بالدون، وقد دعينا للعلو؟ "فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ..."نداءٌ لمن أراد أن يكون من الفائزين. جعلنا الله وإياكم من "السابقون السابقون أولئك المقربون".

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة