بن علوي يعتقد

 

 

علي بن سالم كفيتان

في ديسمبر الماضي كتبتُ مقالًا بعنوان "بن علوي ما زال صائمًا"، تعليقًا على حديثه لقناة الجزيرة، وكيف خرجت مُقدِّمة ذلك البرنامج خالية الوفاض إلّا من بعض المعلومات عن الموز والنارجيل في مزرعة بن علوي، ونال ذلك المقال في حينها مُتابعة واسعة وتفاعلًا كبيرًا على مواقع التواصل الاجتماعي، وأعتقدُ أن الرجل نوى الإفطار، لكنه لم يبدأ بالتمر والماء، كما هي عادة الصائم!

ربما يَحقُ له ذلك، لأن بن علوي ليس كغيره وله الحق تمامًا في الاعتقاد كيفما يشاء، لكن إذا وصل الاعتقاد إلى الجزم فهذا شأن آخر؛ فالرجل رغم خروجه من عالم السياسة في عام 2020 رسميًا، إلّا أنه يظل واجهة دبلوماسية يُثير تواجدها في أي محفل شغف المتابعة وفضول المعرفة، مهما كان الحديث. وفي الغالب حديث شخصيات من هذا العيار، يُسقط على الموقف الرسمي للبلد، ومن هنا يُمكننا الاختلاف مع بن علوي في بعض ما ذكر أثناء حديثه الرمضاني مع إذاعة "هلا إف إم"، وهذا لا يُفسد مطلقًا اتفاقنا ومحبتنا للرجل؛ كونه يعدُ أحد الفاعلين والمُقرَّبين من السُّلطان الراحل قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- وأحد الرموز العُمانية التي لا يُمكن تجاوزها.

وفي إطار هذا الحديث، هل يُمكننا اعتبار بن علوي أحد الصقور عندما كان في ثورة ظفار أم من الحمائم؟ وأنا هنا أعتقدُ أنه انتهج طريق الصقور لإحداث تغيير، وهذا أمر محمود لا شك في ذلك، ويُحسب له بكل المقاييس، ويتطابق تمامًا مع رغبة كل العُمانيين في تلك الحقبة الصعبة من تاريخ بلادنا. ولا أدرى كيف رأى سياسة الصقور في فلسطين أمرًا غير مُحبَّذٍ في ظل انغلاق أفق سياسة العقول، التي لم تجلب وطنًا للفلسطينيين؛ فالمفاوضات العبثية والاتفاقيات الوهمية مع الكيان الصهيوني، أعجزت عقول أعتى المفاوضين العرب وأكثرهم جَلدًا وصبرًا، وقادتهم الى أقبية مُعتمة وسراديب مُظلمة وتنازلات مُشينة. نعم هناك خسائر جسيمة نتفق مع ذلك، لكن القضية عادت إلى الواجهة بقوةٍ، ولكم أن تتخيلوا معي أنَّ الولايات المتحدة بجلالة قدرها تتفاوض اليوم مع حركة "حماس" لإخراج أسير صهيوني يحمل الجواز الأمريكي. هل كان ذلك مُمكنًا قبل السابع من أكتوبر؟

استدركَ بن علوي هذه المرة عندما تحدث محاورُه عن الفكر الشيوعي لثورة ظفار، وقال إنِّه ليس فكرا ًعامًا؛ بل نهج اختطه بعض الأفراد، فغالبًا ما كانت الشيوعية وصمة ضد الثورة لحشد التأييد في فترة انتقل فيها الرجل من صقر الثورة إلى حمامة الدولة؛ فأول مهمة كانت له- حسب حديثه الشائق- عضويته في وفد السلام إلى الدول العربية، بمعية مشايخ وشخصيات وازِنة من عُمان، فيما سبَّب بن علوي وجوده في الوفد؛ بأنه من ظفار. ولا شك أن بن علوي استطاع اللحاق بركب التغيير، وأوجد لنفسه مكانًا يحسده عليه الكثيرون؛ فالرجل نفَّذَ سياسة اختطها السلطان الراحل بكل إتقان طوال فترة توليه لمنصب الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية، ومارسها حتى أصبح أيقونة دبلوماسية عالمية، وكل ما يتحدث به اليوم سيُسقط بلا شك على عُمان، في الوقت الذي انتهج فيه خلفه معالي السيد بدر بن حمد البوسعيدي دعم صمود الشعب الفلسطيني، وصدح الموقف الديني من خلال الرسوخ الخالد للشيخ أحمد بن حمد الخليلي مع المُقاومة، وثبت الموقف الشعبي العُماني العارم مع حق المقاومة الفلسطينية في الدفاع عن دينها وأرضها وعرضها.

أعتقدُ أن بن علوي تأثَّر بالسياسة البرجماتية المُنتشِرة بعد تولِّي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سُدة الحكم في واشنطن، وهي السياسة التي تنتهجها بعض الأنظمة العربية اليوم بصمتٍ خوفًا من شعوبها؛ فتصريحات ترامب عرَّت التوجه الأمريكي تجاه القضية الفلسطينية، وأوضحت أنَّه لا دولة فلسطينية وأن الشعب الفلسطيني يجب توزيعه على دول الجوار، وأن الكيان الصهيوني له الحق في التمدُّد كونه "صغيرًا جدًا" ويجب توسعته.

فهل ما زال هناك مجال لدبلوماسية العقول التي ذكرها بن علوي وقادها مع أعتى جيل من وزراء الخارجية العرب لأكثر من 50 عامًا ولم تُفضِ إلى نتيجة؟

الحقيقة أننا مهما سبحنا في مُحيط بن علوي لن نصل إلى مرافئ فكره الواسع وخياله الحاوي لمنطلقات السياسة العالمية المُعقَّدة ومماحكات الدهاليز العربية الفارغة، وسيظل يوسف بن علوي لغزًا كبيرًا، فكم رأينا حذره الشديد عندما سأله مُقدم البرنامج في إطار جلوسه الأول مع السلطان الراحل بعد العودة من النِّضال: "ماذا قال لك السلطان؟" توقف ثم رد: "لا أستطيع إجابتك؟".

الأكثر قراءة