خالد بن سعد الشنفري
عُمان بلد وهبه الله تنوعًا جغرافيًا وبيئيًا قلَّ أن تجد له مثيلاً؛ حيث تقع على شريط ساحلي يعد من أجمل شواطئ الدنيا يزيد طوله على 3000 كم، متنوع التضاريس، ما بين طبيعة رملية ناعمة وصخرية ثرية ساحرة، وثلاث بيئات رئيسية واضحة المعالم، يختلف كل منها عن الآخر؛ البيئة البحرية، والبيئة الجبلية، والبيئة الصحراوية؛ وقد انعكس كل ذلك على تنوع المواد الخام الأولوية التي يستخدمها الحرفيون التقليديون في صناعة مُنتجاتهم منذ القدم.
أصبحت هذه المنتجات الحرفية مع الزمن صناعةً لها خصوصيتها، وتجارة رائجة، تطورت على مر الزمن، على أيدي الحرفيين المهرة، الذين طوروا منها ومن جودتها، كلٌ في بيئته الخاصة، فأبدعوا وتنوعوا في مصنوعاتهم الحرفية الجميلة حسب حاجات وأذواق المستهلكين المتجددة دومًا. وقد كان سوقها رائجًا في عصر ما قبل النهضة الحديثة لاستعمال النَّاس لها في حياتهم اليومية واحتياجاتهم، وكان الحرفي في وقتها من ذوي الدخول المرتفعة في عُمان عمومًا، وكانت أعدادهم كبيرة في المجتمع، وكانت صناعة الحرفيات التقليدية مصادر رزق ثابتة لهم.
وبعد عصر النهضة وفي ظل تطور وتغير أنماط وأساليب الحياة العصرية وجد الحرفيون أنفسهم في شبه بطالة؛ فهجروا المهنة وتضاءلت أعدادهم، وهجرها الكثير منهم، وبالذات الأجيال الجديدة؛ بل أصبح لهم في سوق العمل العام والخاص بديل مريح عنها وعن ممارستها. لكن الحكومة تنبَّهت لهذا الأمر؛ فشرعت في تدريب وتأهيل من بقي محافظًا منهم على هذه المهن والحرف، لتطويرها ومواكبة العصر؛ فوجدوا بعد ذلك ضالتهم في السياحة لتسويق منتجاتهم بعد أن تلاحظ إقبال السياح على اقتنائها. ومع ما تحظى عُمان به من نصيب جيد من السياح؛ سواء من الدول المجاورة في سياحة موسم الخريف في ظفار- الآخذة في النمو عامًا بعد عام- أو السياحة الشتوية الأوروبية في أكثر من موقع على مستوى السلطنة، وكذلك سياحة البواخر السياحية التي أصبحت شبه منتظمة إلى ميناءي صلالة في ظفار والسلطان قابوس في مطرح، وأخذت الصحاري بدورها تستقطب معجبيها وروادها في أكثر من فصل وموقع في عُمان، وتنافس في هذه المنظومة السياحية التي يندر أن تجد لها مثيلاً في أي بلد واحد في العالم مثل بلادنا، فبدأت حركة الصناعات الحرفية تعود من جديد، وقد أصبح لها سوق، وتدر دخلًا على القائمين عليها والمشتغلين بها، وبدأت عودة الحرفيين تدريجيًا بأعداد لا بأس بها، خصوصًا في ظل أزمة الباحثين عن عمل.
مع هذا المنعطف الجديد في خط سير الصناعة الحرفية التقليدية وسوقها اليوم، وبعد أن توالت على مدى 50 عامًا من مسيرة نهضتنا، العديد من المؤسسات العامة التي تعني بها تدريبًا وتأهيلًا للمشتغلين عليها وتحفيزًا لهم وحتى المساهمة في شراء وتسويق منتجاتهم، حتى أصبحوا اليوم في ظل رعاية مؤسستين حكوميتين كبيرتين رائدتين؛ هما: وزارة التراث والسياحة وهيئة تنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، بعد إلغاء الهيئة العامة للصناعات الحرفية سابقًا.
لقد آن الأوان اليوم للعمل بحزم وصرامة وإصدار قوانين ولوائح لتنظيم شؤونها ورعاية العاملين فيها، وهم طبقة أصبحت كبيرة من الأفراد والأسر العُمانية المُنتِجة لهذه الحرف وتجارتها، والعمل على توطينهم في أعمالهم ومصادر رزقهم التي كادت أن تهوي وتزول، بالذات بعد أن نخر فيها ما يسمى بـ"التجارة المستترة" للوافدين، الذين حققوا ثروات على حساب هؤلاء الحرفيين العُمانيين؛ بل ونزلوا بهذه المهنة وجودتها إلى الحضيض. وعلى سبيل المثال لا الحصر موضوع البخور الظفاري الشهير والمميز، وشجرة اللبان التي تُعد نفط عُمان الأبيض تاريخيًا والتي أصبحت تجارته؛ بل وحتى صناعته تسيطر عليها التجارة المستترة، ووصل بهم الأمر لحد خلطها بنشارة الخشب للربح السريع. كل ذلك لم يعد خافيًا على الجهات المختصة، لكن للأسف الشديد لا أحد يحرك ساكنًا، بينما تسعى الحكومة بكل أجهزتها وإمكانياتها لحل مشكلة الباحثين عن عمل من خارج الصندوق وتطبيق التعمين والحد من الأعداد الكبيرة للباحثين عن عمل، الذين وصلت بهم فترات الانتظار للحصول على وظيفه مددًا قاربت 10 سنوات للبعض منهم، فلماذا لا نُفعِّل هذا النشاط الإنساني الجميل المُربح ليستوعب الآلاف من أبنائنا في مختلف محافظات السلطنة؟ ومتى سنرى تنفيذًا صارمًا للقوانين التي تُجرِّم العمل بصناعة أو تجارة الحرف التقليدية لغير العُمانيين؟!