د. إبراهيم بن سالم السيابي
بالرغم من أني قد عاهدت نفسي بأن أكتب عن أيَّ موضوع إلا عن الجامعة ولكن وجدت نفسي أنكث هذا الوعد، فليس من السهل أن تكتب عن تلك السنين من عمرك التي قضيتها في ربوع الجامعة، هو عمرٌ كامل قضيتُه في رحاب جامعة السلطان قابوس، عمرٌ بدأ من مرحلة الشباب وانتهى بمرحلة الكهولة، بدأ بنقص التجربة إلى الطموح، والعمل بالشغف وانتهى بمرحلة النضج، كانت سنوات مملؤة بالذكريات، كانت تلك السنوات أكثر من مجرد فترة عمل؛ فمن حُسن حظي كانت رحلةً طويلة جعلتني أعيش في قلب مؤسسة أكاديمية كانت الأولى من نوعها في هذا البلد تعنى بالدراسة الجامعية وستظل الأولى بإذن الله في الريادة والتفوق، كل شيء في هذه الجامعة بدا مختلفاً فقد كانت شيئا آخر وحلماً آخر حتى الجدران، المباني والمرافق، كل شيء يحمل إرثًا من المعرفة والتطور، حتى الطلبة كذلك بدوا مختلفين كلٌ منهم يحمل مشروع قائد في فكره وأحلامه وسعيه بلا كلل أو ملل نحو التفوق والنجاح، مباني الجامعة كانت أيضًا شاهدةً على لحظات من التحدي والمرارة في بعض الأحيان، وتذكرني بلحظات لطف الزمن معي في بعض المرات وكذلك عن بعض اللحظات الصعبة من حياتي في مرات أخرى.
كنت عندما خطوت أولى خطواتي في العمل بالجامعة، كنت أظن أنني سأمضي هناك جزءًا من عمري ولم أكن أظن أنى سأمضي العمر كله، وأن هذا المكان الذي بدا لي في البداية أنه مجرد مكان عمل، ليصبح في ما بعد جزءًا لا يتجزأ من كياني، كانت الأيام تمضي سريعًا، وفي كل يوم، كنت أكتشف شيئًا جديدا عن هذا المكان فهو قبلة للزائرين ومدرسة تشبه الكتاب يتعلم فيها كل من يمر من هنا درسا جديدا، فكلما مرَّ جيل من الطلبة تعلمتُ منه شيئاً جديد مرة عن الأمل ومرة عن الطموح ومرة عن المحاولة والتجربة ومرة عن الوطن والتاريخ والحضارة ومرات عن الأصالة والقيم والمعاصرة.
زملاء العمل كانوا ثلة من العلماء في كافة العلوم ومجموعة من الفنيين والإداريين المتخصصين يربطهم العمل نحو السعي إلى يوم التخرج في المسرح المفتوح، العرس الذي يجتمع فيه الخريجون وأولياء الأمور والمعلمون، فالكل يعمل لهذا اليوم، فأحدهم يدرس والآخر يدرب وآخر يبحث في أمهات الكتب والمراجع وآخر يعمل في المختبرات مع المحاليل والمجاهر وآخر يساند والنتيجة إعداد أجيال متمكنة من القادة وصناع المستقبل لهذ الوطن العزيز.
لقد كانت لي في الحرم الجامعي في كل مبنى وزاوية وركن ورواق قصة، ولقاء وحكاية مع زميل أو طالب أو ذكرى محفورة في الذاكرة.
ما دعاني أن أكتب وأعود إلى الجامعة ليس ذلك الحنين إلى الجامعة وحده فحسب، وإن كانت السنوات التي قضيتها في الجامعة قد مضت بأحداثها العديدة، فقد كان لكل لحظة عشتها طعما خاصا حتى حانت لحظة الوداع التي كانت برغم مرارتها كان لا بُد منها في يوم من الأيام امتثالا لسنة الحياة والتسليم بحتمية تعاقب الأجيال.. ما دفعني للكتابة وجاش في العواطف والحزن من جديد، أنه بين الحين والحين تفجعنا الأخبار ويغيب الموت بعض الرفاق ممن عملنا سويًا في هذه الجامعة، بعضهم قد سبق وأن غادر العمل بالجامعة وآخرون غيبهم الموت وهم لا يزالون على رأس عملهم. هذا الرحيل وغياب شمس أحدهم عن هذه الدنيا إلى الأبد يترك في القلب وجعًا عميقًا؛ فهو ليس مجرد فقدان زميل أو زميلة ممن كان تجمعنا معهم الزمالة في العمل، بل هو فقدان جزء من تاريخ العمل المشترك، وكثير من ذكريات ولحظات السعادة.
فقدان الرفاق في العمل الذين كانت تربطنا معهم علاقة وطيدة ليس بالأمر السهل ففي الجامعة لم تكن تجمعنا الزمالة والصداقة وعشرة عمر طويلة وكفاح مشترك فحسب، ولكن هؤلاء الزملاء والزميلات كانوا مصدر دعم وإلهام، فقد كنَّا نتشارك معًا اللحظات الصعبة والجميلة، وبالتالي رحيل أحد هؤلاء الرفاق يترك فراغًا كبيرًا في القلب لا يمكن أن يمحوه الزمن، وتظل ذكراهم حاضرة في الجامعة في كل مبنى وقاعة ومرفق، ونسأل الله لهم الرحمة والمغفرة وأن يجمعنا الله معهم في جنة الخلد.
في الختام كان لا بُد لي أن أقف على المسرح المفتوح بالجامعة وفاءً وامتناناً لأودِّع هؤلاء الراحلين عن عالمنا بكلمات تليق بهم وبعطائهم، وتليق بالذكريات الجميلة التي جمعتنا معًا، طول تلك السنين، والتي ستظل حية في القلب ما حييت، وأن أتوجه إلى الله بخالص الدعاء بأن تظل هذه الجامعة في تقدم دائم، وأن تواصل رسالتها في بناء الأجيال.