د. إبراهيم بن سالم السيابي
إلى ذلك الطفل الذي في إحدى ما تبقى من المستشفيات في غزة وظهرت صورته في وسائل التواصل الاجتماعي في منظر يُدمي القلب ويرمد العين، وهو يصيح ويبحث عن أمه وعائلته الذين رحلوا جميعاً عن هذه الدنيا وهو لا يدري بعد بأنه لم يتبق إلّا هو، ليكون الناجي الوحيد من قصف غادر راحت ضحية أفراد أسرة بأكملها، في واحدة من أفعال وجرائم وحرب إبادة تُمارس على أهل غزة المظلومين.
من الممكن أن يتصور أن هذه الإبادة الجماعية والتي تُعد الأسوأ في التاريخ الحديث والتي تُنقل بالصوت والصورة إلى كل البسيطة، قد تجاوز عدد من تم تصفيتهم من الوجود 45700 شهيد على الأقل؛ بخلاف من فُقدوا تحت الركام، ومن يتصور أنه لا يزال مسلسل الإجرام على أهل غزة مستمرًا إلى يومنا هذا، من كيان يمارس كل هذه الأفعال بلا رادع ولا خوف، بعد أن فقدت شعوب العالم ضمائرها، بعضها من الخوف والأخرى بحفنة من الدولارات وأخرى بعدم الاكتراث وآخرون لا حول لهم ولا قوة، بينما أهل غزة يموتون من البرد بلا طعام ولا شراب ولا دواء ولا كساء ولا مأوى، يعيشون في العراء، يطاردهم الموت من كل جانب، تُقصف مدارسهم وخيامهم ومستشفياتهم وبيوتهم عشرات المرات في اليوم الواحد.
أيها الطفل العزيز.. أنت ربما لا تعرف بعد معنى الكلمات التي أكتبها لك، ولكني أُدرك مرارة الألم الذي يحيط بك في مثل هذه الظروف، فاكتب لك هذه الرسالة بقلبي وروحي التي تعرف معنى ألم الفقد وذل الانكسار والخذلان، وأنا أعرف في قرارة نفسي بأنه لا طائل من الكتابة ولا طائل من الحنين أو البكاء؛ فالحزن أكبر من الألم والحال أكبر من الرثاء أو ربما البعض قد أصابهم الملل والضجر فلم يعودوا يكترثون حتى بالقراءة.
فماذا عساي أن أكتب؟ عن حالك أم عن حزنك أم عن فقدك؟ أم أكتب أحلام الأطفال من أقرانك بأنكم تحلمون باللعب واللهو وتفرحون عندما تشترون الحلويات من البقالة أو من أحد الباعة المتجولين عندما يجود عليكم الأهل ببعض النقود أم أكتب عنكم عندما تذهبون إلى المدارس تعانقون الأمل في الغد والمستقبل تنشدون القصائد عن الوطن وعن العروبة، ولكن أين هي بيوتكم أو أين هي شوارعكم ومحلاتكم أو أين هم حتى الباعة المتجولون أو أين هي مدارسكم ومن أين لكم من قصائد عن العرب والعروبة بعد أن تفرغ الشعراء العرب في نظم قصائد الغزل.
طفلي العزيز.. كم هو قاسٍ هذا الزمن عندما يسمح للحرب لكي ترسم مصيرك ومصير من هم في سنك، فتفقد ويرحل عنك والدتك ووالدك وإخوتك وكل من كان يحبك في هذه الحياة كم هي قاسية هذه الحياة، عندما تغدر بك فتسرق منك كل هذه الأحلام وتحرمك من أقل شيء يمكن أن تحصل عليه، وتحرمك فلا تستطيع أن تُعانق بعد اليوم عائلتك كما يفعل كل الأطفال في عالمهم البسيط المليء بالبراءة والحب والأمان.
لكن أيها الطفل العزيز، إنها إرادة الله، فأنت لم تختَر أن تُولد في هذا الزمان وعلى هذه الأرض الطيبة، وأن تدفع ربما ثمن بقاء ما تبقى من شرف أمة بأكملها. نعم.. أنت لم تختَر أن تكون ضحية في هذا الصراع، لكن هذا الصراع- وإن كان أكبر من أن يفهمه من هم في سنك- هو صراع بين الحق والباطل، صراع عقيدة، وصراع وجود، وسينتصر الحق مهما طال الزمن ومهما عظمت التضحيات.
أيها الطفل العزيز.. أقول لك ذلك لأنك، بالرغم من براءتك وصغر سنك، تحمل في قلبك أوجاعًا لا يستطيع أحد أن يتحملها، ولا أحد يمكنه أن يُصدِّق، فكيف يستطيع قلبك الصغير أن يتعامل مع هذا الفقد الكبير وأنت من حولك لا حول لهم ولا قوة، ولكن أريدك أن تعرف شيئًا واحداً ستطل صورتك تلك في المستشفى تحمل رسالة الأمل والعزيمة والصبر على تخطي الصعاب، ستظل صورتك تحمل شهادة عن نخوة وقوة وشجاعة وإيمان وصبر وإيمان أهل غزة، رغم كل الألم، ورغم كل الخسارة، بأن الله ناصركم لا محالة حتى لو خذلكم كل من في هذه الأرض، رسالة تقول بأن الذي يطالب بالحق والأرض لا يستكين ولا يموت إلا بعد أن يعود له حقه ووطنه وتعود له أرضه.
في الختام.. في بلادي ومعها كل أحرار العالم لن ينسوا آلامك، فأنت لست وحدك في هذا العالم، أنت في قلب كل منَّا لك أسرة وبيت، وأنت وإذ كنت قد فقدت أهلك وبيتك؛ فكل القلوب هي بيتك فحزنك هو حزننا ودموعك هي دموعنا وكل الدماء التي أريقت في غزة هي دماؤنا ولن تذهب سُدى، وستعود غزة بإذن الله كما كانت تعلمنا وتعلم العالم بأنَّ الحياة هي الوطن الذي يُولد ويُصنع فيه الرجال.