جمال بن ماجد الكندي
سقط النظام السوري السابق، وكما قلنا، فإنَّ سقوطه له أسباب ظاهرة لنا ذكرناها حسب توصيف ابن خلدون في سقوط الحضارات والدول. وطبعًا، هناك روايات عدة ستخرج، وبعضها أصبح مُعلنًا، في كيفية سقوط النظام.
فهل كان اتفاقًا سياسيًا بين حلفاء سوريا وخصومها؟ الأكيد أنَّ هناك من يدعم ما حصل للنظام السابق من داخل سوريا، بصرف النظر عمّن استلم الحكم وما نتائج هذا الأمر. المهم سقوط الأسد، لأنه- في منظوره الخاص- يُريد الإصلاح وإقامة الحريات. وهذا الأمر نتمناه لسوريا ما بعد النظام. ولكن السؤال الجوهري والمهم: هل يتحقق هذا الأمر على أرض الواقع وسط هذه الأجندات السياسية المُختلفة لمن استلم الحكم في سوريا، ومن يدعمهم من الخارج؟ فهل ستبقى قاعدة "وحدة وسيادة الأراضي السورية" العنوان البارز لحكام سوريا الجُدد؟
وفي المقابل، هناك من تأثر ويعتقد بأننا خسرنا دولة محورية في المنطقة كانت على مدار سنوات حكمها شوكة في حلق إسرائيل، بدعمها واحتضانها لقوى المقاومة بكافة تنوعاتها ضد الكيان الصهيوني.
أما الخاسر والرابح من سقوط النظام السوري السابق، فيأتي على رأس قائمة الرابحون: أولًا: الكيان الصهيوني؛ حيث يعتقد الكثير من المتابعين لما حصل في سوريا مؤخرًا، أن إسرائيل هي أكبر الرابحين من سقوط نظام بشار الأسد. فهل ربح الإسرائيلي بسقوط النظام؟! هناك قاعدة نعمل بها: ما يُفرِح الإسرائيلي يُحزِننا، وما يُحزِنه يُفرِحنا. ما حصل في سوريا أفرح الصهاينة؛ فبعد السقوط مباشرة، احتلت إسرائيل جبل الشيخ، الموقع الاستراتيجي للدولة السورية. وبحسب المصادر الإخبارية، قام سلاح الجو الإسرائيلي خلال يومين فقط بأكثر من 1000 طلعة جوية دمّر فيها مقدرات الأسلحة السورية الاستراتيجية الموجهة لحرب مفتوحة مع العدو الإسرائيلي، فدمرَّ المطارات والأسلحة الثقيلة، وما زال التدمير واحتلال المناطق السورية مُستمرًا. هذا الأمر يجعله رابحًا كبيرًا من سقوط النظام السوري السابق، ولكننا ما زلنا ننتظر قرارات الحكومة الجديدة، ربما تأخذ الحد المقبول والمنطقي في مقارعة إسرائيل، خاصة بعد احتلالها أراضي جديدة في سوريا.
ثانيًا: الشعب السوري الذي يمكن أن يكون الرابح الأكبر من سقوط النظام السابق إذا تمكنت الحكومة الجديدة من طيْ صفحة الماضي وتلبية تطلعات الشعب التي كانت مُغيَّبة عن السلطة السابقة؛ سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي. وعلى الحكومة أن تسعى لمعاملة جميع شرائح الشعب السوري على قدم المساواة؛ بعيدًا عن أي انتماءات مذهبية أو طائفية أو عرقية، تحت مظلة الوطن الواحد. وبهذا النهج، يُمكن للشعب السوري أن يُصبح المستفيد الأكبر من التغيير. ومن المهم أن تُمنح الفرصة للشعب السوري لتتبلور لديه رؤية واضحة ووعي بما يجري، ليقرر بنفسه ما إذا كان سقوط النظام قد أتى بفائدة حقيقية أم أنه فتح الباب أمام الفوضى وانعدام الاستقرار الأمني.
ثالثًا: القضية الفلسطينية، من المعروف أنَّ النظام السابق كان حاضنًا لقوى المقاومة الفلسطينية بكافة شرائحها، وكان الاحتضان سياسيًا وعسكريًا. واليوم، نرى الحُكَّام الجُدد يطالبون هذه القوى بتسليم الأسلحة الثقيلة والمقرات التدريبية للدولة الجديدة والرحيل من سوريا، وهذا كان مطلبًا أمريكيًا وصهيونيًا، وكانت السلطة السابقة ترفضه. ربما الحكم الآن على الربح والخسارة بالنسبة للقضية الفلسطينية من قبل السلطة الجديدة يحتاج إلى وقت حتى تتبلور الحكومة القادمة في سوريا. ننتظر ونحكم بعدها؟!
رابعًا: الحليفان الروسي والإيراني: كانت كل من روسيا وإيران حليفين للنظام السابق، والجهد العسكري لهذين الحليفين كان واضحًا خاصة من الجانب الروسي، الذي له قواعد عسكرية بحرية وجوية في سوريا. وثمة تساؤل اليوم حول مصير هذه القواعد؛ لأنه في حالة إخلائها ستخسر روسيا موطأ قدم مُهم قُبالة البحر الأبيض المتوسط وتخسر وجودها في المياه الدافئة، وستكون خاسرًا كبيرًا بسقوط النظام السابق. يقال إن هناك اتفاقًا روسيًا أمريكيًا بتسليم سوريا مقابل أوكرانيا، وهذه كلها تكهُّنات لا دليل عليها، والحسم في مسألة القواعد العسكرية الروسية سيكون عندما يتولى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الحكم في يناير المقبل. أما الحليف الإيراني فوجوده العسكري تقلَّص أو انعدم بعد سقوط النظام، ويبقى الوجود السياسي والذي سيتحدد طبيعته وحجمه في قادم الأيام بعد تشكيل الحكومة السورية الجديدة، المهم بأن الروسي والإيراني خسارتهما كبيرة بسقوط النظام السابق.
خامسًا: الطرف التركي: ربما تكون تركيا أحد أبرز الرابحين من سقوط النظام السابق؛ حيث لعبت أنقرة دور الداعم الرئيسي للجماعات المسلحة التي ساهمت في إسقاط نظام بشار الأسد. وهذا الدعم يجعل حلم تركيا بالسيطرة على حلب والشمال السوري أقرب إلى التحقق؛ مما يُعزز مكاسبها حتى الآن.
ومع ذلك، يبقى مصير قوات سوريا الديمقراطية "قسد" (وهي مجموعات كردية مدعومة أمريكيًا) عاملًا غير محسوم بالنسبة للجانب التركي، وينتظر الحسم من الإدارة الأمريكية المقبلة، المتمثلة بالرئيس ترامب. وإذا تم القضاء على تواجد "قسد"، فإن تركيا ستكون الرابح الأكبر؛ لأن ذلك سيمنع تشكُّل أي كيان كُردي مُستقل يمكن أن يُشكل تهديدًا مباشرًا لأمنها الداخلي، خاصة مع وجود قضية الأكراد في تركيا الذين يعانون من سياسات حكومة أردوغان.
أما إذا استمرت قوات "قسد" تحت الرعاية الأمريكية وسيطرت على شمال سوريا، وخصوصًا المناطق الحدودية مع تركيا، فقد تواجه أنقرة خسارة استراتيجية كبيرة؛ ذلك أن إنشاء دولة كردية على حدودها سيُعزِّز المخاوف التركية من تحفيز تطلعات أكراد تركيا للاستقلال، مما يُهدد استقرارها الداخلي بشكل كبير.
لكن ثمة سؤال جوهري كبير بعد سقوط النظام السوري السابق وفرحة إسرائيل الكبيرة بهذا السقوط: هل شُفيت جروح الكيان الصهيوني التي سببتها معركة "طوفان الأقصى" ومعارك الإسناد اليمنية واللبنانية والعراقية؟! الجواب بالتأكيد أنَّ جراحه ما زالت تسيل ولم تُضمد؛ فمحور المقاومة خسر دولة محورية، لكنه في انتظار قرارات الحكومة الجديدة ضد إسرائيل، خاصة بعد ما قامت به من تدمير واحتلال بعد سقوط النظام السابق مباشرةً.
أما المحور الذي يقاتل إسرائيل فما زال قويًا، والضربات ضد الكيان شاهدةٌ على ذلك، وليس آخرها الصاروخ الفرط صوتي اليمني الذي أصاب قلب تل أبيب. كما إن حزب الله يحتفظ بسلاحه وعلى أُهبة الاستعداد، والمجاهدون في غزة صامدون يقاتلون من أجل قضيتهم منذ أكثر من 14 شهرًا، والعدو الصهيوني لم يُحقق ما كان يُعلن عنه من أهداف، وأهمها تحرير الأسرى وتدمير القدرات الصاروخية لحزب الله؛ لذلك نؤكد أن المقاومة بخير.
سوريا كانت تُحكَم بثلاثة أعلام لها أجندات مختلفة، واليوم بعد سقوط العلم الأقدم بقي عَلَمَان، لكل منهما مشروع في سوريا. المشروعان نستطيع تسميتهما بالمشروع الأمريكي من خلال علم "قوات قسد" الذي يُسيطر على آبار النفط والغاز في شمال سوريا، والمشروع التركي الذي يحلُم بالسيطرة على شمال شرق سوريا والقضاء على أكراد سوريا.
والمتابع لا يستبعد المواجهة بين هذين العلمين، اللذين كانا السبب المباشر في إضعاف العلم القديم، فهل المواجهة قادمة بين قوات قسد والجماعات المسلحة مع الجيش التركي؟ لأن الطرف التركي إذا قبل بالوجود الكردي على حدوده، فسوف يُثير الأكراد في الداخل التركي، ويطالبون بدولة لهم. ومثلما ذكرت سابقًا، فإن هذا الأمر متروك لغاية وصول سيد البيت الأبيض الجديد.
ختامًا.. أتمنى أن يكون الرابح الأكبر هو الشعب السوري بكافة مكوناته؛ فهذا الشعب تَعِبَ من الحروب، ويريد أن يستقر سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، ويشعر بالأمان والرفاه الاقتصادي، وهذا الأمر ستُحدِّدُه الحكومة السورية المقبلة، وسوريا حُبلى بأحداث كبيرة مستقبلًا، ونرجو أن يكون الحدث الكبير هو ما يُفرح المواطن السوري.