مسعود أحمد بيت سعيد
تعرضتْ الجمهورية العربية السورية خلال العقد الماضي لحربٍ كونيةٍ شاملةٍ، ساهمت قوى محلية وإقليمية ودولية، في نقلها من موقعها التاريخي بكل ما له وما عليه إلى الموقع النقيض، وقد ظنَّ البعض- وهو مُحقٌ- بأنَّ مصير المنطقة يتوقف الى حد كبير على ما يجري على أرض سوريا، ولسنا بصدد تقييم دورها في ظل نظام الرئيس بشار الأسد؛ فهذه المسألة من مهام التاريخ.
ما يهم تأكيده أنَّ أسباب وعوامل ذاتية وموضوعية عديدة، بعضها مشروع وبعضها الآخر مُفتعل، مَهَّدَتْ لما وصلت إليه الأمور حاليًا. وفي إطار تلك التفاعلات يُمكن فَهْم مجريات الأحداث والوقائع الدراماتيكية الهائلة التي توالت بسرعة مُذهلة خلال الأيام القليلة الماضية. وبما أن الحقائق لم تتضح بصورة كاملة، فإنَّ المؤشرات الأولية ربما تجيب على الكثير من التساؤلات الغامضة لجهة التغيير المفاجئ في موقف الحليفين الكبيرين؛ روسيا وإيران. نعتقدُ أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استطاع تمرير الخطة الأمريكية وإقناع روسيا وإيران بالتخلي عن حليفهما الاستراتيجي في لحظة مفصلية صعبة، وستقف الأجيال القادمة أمام تلك اللعبة، باعتبارها أكبر خدعة عرفها التاريخ. وبما أن الصراع لا يخلو من الأبعاد المذهبية، فإنها في بعض جوانبها أشبه بـ"خدعة معاوية". وبغض النظر عن الاعتبارات المبدئية والأخلاقية، فإنها من الناحية السياسية تقف خلفها مجموعة فرضيات رئيسية، اعتبرت التمسُّك بها أكثر جدوى من دعم الأسد.
الفرضية الأولى المشتركة بينهما، قائمةٌ على أساس توقُّع صراعٍ داخليٍ سريعٍ يُتيح لهما فرصة ترتيب الأوراق والحفاظ على مصالحهما بتكاليف أقل. وهذا التقدير من حيث إمكانية تطوره، أمرٌ وارادٌ، غير أنه ليس بالضرورة أن يصُب في مصلحتهما؛ حيث ستبرُز قوى جديدة قادرة على التعاطي مع الواقع الجديد، والتأثير على مُعظم مكوناته الفاعلة بشكل أفضل. وما فاتهما تقديرَهُ بشكل دقيق، يتمثل في أن كل القوى- القديمة منها والجديدة- تلتقي على ضرورة استبعاد الدوريْن الروسي والإيراني، ومواجهة نفوذهما، ليس في سوريا فحسب؛ بل وعلى امتداد الإقليم.
الفرضية الثانية؛ وهي فرضية إيرانية بحتة، والتي ما زالت تستحضر السيناريو العراقي وحركته الداخلية التي صبت في مصلحتها. هذا السيناريو حاضر باستمرار في العقلية الإيرانية، وتتصور إمكانية استنساخه، رغم أن هذا السيناريو يتجاهل حيثيتيْن مُهمتيْن؛ الأولى: طبيعة المعطيات الداخلية والخارجية المختلفة، وكذلك سعي جميع الأطراف الإقليمية والدولية لتلافي تكرار نتائجه. أما الحيثية الثانية، فهي أن القوى الطائفية الكبرى- الشيعية والسنية والكردية- التي جاءت على ظهر الدبابة الأمريكية هي التي أمسكتْ بزمام السُلطة الجديدة في العراق، وهذا المُعطَى الموضوعي مَكَّنَ تلك القوى من الدخول في لُعبة المُحاصَصَة الطائفية والسياسية بقوة الأمر الواقع، ضمن مُخطَّط أوسع أعطى للقوى الطائفية الشيعية الموالية لها نفوذًا كبيرًا في جميع المؤسسات تحت السيطرة الاستعمارية. في حين أن الوضع السوري لا تنطبق عليه مثل هذه الاحتمالات؛ حيث إن القوى المُسلَّحة التي وصلت وسوف تصل للسُلطة، جُلُّها معادٍ لإيران.
أما الفرضية الثالثة؛ فهي فرضية روسية خالصة، تعتمد في أسوأ الأحوال على إمكانية فتح باب المُساوَمَات مُقابل تحقيق مكاسب على الجبهة الأوكرانية. وفي ظل التكوين السياسي والمُسلَّح القائم، فإنَّ إمكانية الاستثمار في هذه الجزئية مَحدودة للغاية. وبعيدًا عن الضمانات، بدأ الحديث عن ضرورة خروج القوات الأجنبية التي لا يُقصد بها سوى التواجد الروسي والإيراني، ولن تكون بمقدورها مواجهة مطالب الخروج. وإذا أخذت هذه الحيثيات والفرضيات والسيناريوهات في الاعتبار، فإنَّ نتيجتها المنطقية هي ربحٌ صافٍ للولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها، وخسارة صافية للمحور "الروسي- الإيراني".
وقد بدأت الخطوات العملية لإجهاض تلك التقديرات، من خلال تجنُّب- قدر المُستطاع-الفراغ السياسي والأمني، وإذا ما استمر هذا النهج، ستجري الإطاحة بكل السيناريوهات الروسية والإيرانية بشكل حاسم، وإن كان هذا التوجُّه يتنافى مع تركيبة الطيف الآيديولوجي والسياسي الجديد، إلّا أنها تعكس إجراءات فرضتها طبيعة المرحلة الراهنة واستحقاقاتها.
تبقى فرضية أخيرة تتمثل في الرهان على دور بعض القطاعات العسكرية السابقة، بَيْدَ أنَّ هذه الفرضية قُضي على جزء كبير منها من قبل القوات الإسرائيلية التي دمَّرت القدرات السورية بشكل كامل، وسط صمتٍ داخليٍ وخارجيٍ مَعيب! وهي بذلك تُقدِّم خدمةً لحلفائها من ناحية، وتقطع الطريق على الأوهام الروسية والإيرانية من ناحية أخرى. وقبل وبعد كل ذلك، تحقيق الهدف الرئيس للكيان الصهيوني بتدمير كل عناصر الصمود العربي.
لا شك أنَّ المشهد يحمل في ثناياه أبعادًا أخرى، لم تتكشَّف بعد، ومهما كانت التنبؤات بما ستؤول إليها التطورات المُقبلة، ستبقى عاجزةً عن الإلمام بكافة التفاصيل واستشراف آفاقها المستقبلية، خصوصًا وأن القضية أعمق وأبعد مما هي عليه الآن، ولا يمكن اختزالها في مجرد إسقاط نظام واستبداله بآخر!
ولن تقتصر مفاعيل هذه القضية على الإطار السوري، ولا ريب أن الدولة السورية مُقبلة على وضع مُعقَّد وتحديات كبرى؛ سواءً فيما يتعلق بوحدةِ ترابها وسيادتها الوطنية، أو فيما يرتبط بشكل نظامها السياسي وهُويَّتها العربية التي مثَّلت عبئًا ثقيلًا على كل أطراف الصراع.