ماجد المرهون
الإنسان كائنٌ مُتَّزن في مُعظم شؤون حياته وتترقَّى عاطفته ومشاعره بناءً على الأحداث التي يختبرها وباستمرار، وهذا على وجه العموم باستثناء الخصوص، لما تَفرضه عليهم ظروف مُعينة تقدَّر أهميتها حسب حاجتهم ومنفعتهم منها؛ وهي استثناءات محدودة ومشروطة لا يمكن تفريغ آراءها وقناعاتها بإسقاطها على الجميع من الذين ينتهجون وبشكل طبيعي تلقائي المعنى الإنساني القويم.
وقد يتناقض أحدهم أحيانًا في بعض الأمور نتيجة ترقي وعيه وفهمه، بحيث يرفض فكرةً كان يستوثق معتقدًا صدقها واعتمادها في مرحلة ما عندما يكتشف أنها لم تكن كذلك، ليعتنق فكرة جديدةً أخرى أكثر صلابة بعد مدة من الزمن تطول أو تقصر جراء ازدهار مقومات معرفته وعلمه فضلًا عن تجاربه الشخصية ومقارنات تجارب الآخرين كأمثلة استدلالية.
وقد تحدّثه نفسه في هذه الحالة بأنه وقع في التناقض كما قد يلقي الآخرون عليه تقريعهم بملامة تناقضاته، من خلال تَذكيره بفكرته السابقة أو القديمة التي كان يدافع عنها ويحاجج في تأييدها ويناضل لبرهنتها بالمقارنة مع مسار فكرته الجديدة التي قد تتعارض جزئيًا أو كليًا مع السابقة مع بقاء المبدأ الذي لايتنبه له الكثير ثابتًا، وهو مواكبة الأحداث ومسايرة التطورات وضرورات تغيير المواقف والآراء أحيانًا عندما تحين أهمية الاعتراف بخطأ سابق كانت كل الظروف والظَواهر إبَّانها تؤكد على صحته، بل وتَجزم بما لايترك مجالًا للشَّك أنه واقع حقيقي لا ولن يتغير.
لا يوجد ما يؤكد فرضية الذكاء الجماعي، وإنما لكل منَّا ذكاؤه الخاص، وهو متباين بين شخص وآخر، وبالتالي فإنَّ كل إنسان مفكّر بقدر ويرتقي فكره باستمرار، ولا بد أن يتمتع بمرونة التناقض بمقدار ترقيه المَعرفي وتطوره العقلي، ولا ضَير في ذلك ولا مانع من الاعتراف به. ولولا هذه التناقضات لما تشكَّل وعيه اللازم للتحليل المنطقي والقياس المعتمد على التجارب والمقارنات وتقديم الأولويات وتفضيل المعقولات، ونبذ معتقدات سابقة تشوبها الشبهات وربما الأخطاء بعد ما تبيَّنت له الحقائق ولنقس على ذلك "علاقات الثقة" في مفهومها المعنوي والبنيوي.
ربما كانت التناقضات قديمًا لا تظهر لنا بشكل مباشر إلّا بعد مرور فترة زمنية طويلة، عندما تتكشف الحقائق وتتجلى على أحداث كنَّا لا نشكك في مصداقيتها في حينها، ولكن فيما يجري اليوم ومع تسارع الأحداث وتنوع الأخبار وتعدد مَصادرها ونشاط نقلها، فإن التناقض- الذي قد يصل إلى درجة الإرباك- بات هو الحال السائد، بغيّة إيقاع الناس في دوامة الخلاف، وفصلهم في عدم الاتفاق إلى تيارين متضادين، ينافح كل منهما عن اعتقاداته وقناعاته، وينافس الآخر في إثبات حجته، فلا يلين هذا حتى لا يقال عنه متناقض، ولا يذعن ذاك لعدم تفريقه بين معنى التناقض والنفاق "ومن ظن أنه عَلم فقد جهل"، مع أن كلاهما يستند إلى نفس المبدأ الأصيل وهو الإصلاح والسلام وحب الخير للجميع.
وإذا انطلقنا من مفاهيم قديمة حول تأويل أحداث الآن، التي نعتقد جزمًا بوثاقتها وقياسًا على أحداث قبل 20 عامًا؛ فربما يكون فهمنا لبعضها قاصرًا أو خاطئًا؛ حيث إن بعدنا عن مركز الحدث يدفعنا لإطلاق أحكام مَبنية على مقارنات سابقة، ثم ننحى إلى تأكيد نتائجنا الكارثية مسبقًا قبل حدوثها. وقد شَيدنا كل ذلك البنيان على قاعدة توقعات رخوة لا تسْتند على أدلة متينة، وإنما استشهادات فردية وتحليلات شخصية أو استقراءات استشرافية، من خلال صورة عامة مجردة لبعض المَشاهد. ولعل ما يحدث في سوريا حاليًا، خير شاهد على ذلك؛ إذ تنهال علينا يوميًا توقعات في مُنتهى السلبية ومن أناس يبعُدون عن موقع الأحداث ومعايشتها بُعدًا تامًا ولا يستوعبون مشاعر عاشها جيل ونصف وربما لا يعرفون سوريا إلّا من الخارطة أو التلفزيون.
ينبغي على كل شخص أن يتمتع بعقلية نقديّة وأن يُدرك أن كل مانعتقده ونقوله إنما هو نتيجة بسيطة لما تَحصلنا عليه من معلومات عامة، وقد تكون سطحية ومتواضعة، لكنها صاغت ما نستنْتجه في مراد الوصول إلى نهاية قصة ما اعتقدناه وقلناه وقد لا تكون صحيحة؛ بل توقعات مجردة بنيَّت على تجارب وأحداث سابقة، وما تحصلنا عليه من معلومات فهي متغيّرة ودائمة التطور والتراكم، وسوف تكون نتيجة البناء عليها حتميًا متناقضة بسبب تحليلات هذا الخبير وذلك المختَّص وهذه القناة وتلك الإذاعة والجريدة.
إنَّ الاعتقاد بفكرة مضت عليها عشرات السنين دون مرونة كافية لتعديلها أو تغييرها، إنما هو موقفٌ جاف قابل للانكسار ويؤكد على البُعد الشديد عن الواقع وإمكانية تطويع العقلية النقدية في تغيير موقفها بحسب المعطيات، وأن من يفعل ذلك هو واقع في الخوف من الظهور بمظهر المتناقض الذي يبدّل أقواله ويُغير مواقفه، مع أن التناقض هنا ليس بالأمر الشائن؛ بل هو دليل قوة شخصية ونضوج وعي، تشي بأن صاحبها متكيف مع الواقع ومتأقلمْ مع المتغيرات نتيجة ما تحصل عليه من فهم ومَعرفة أدت إلى إعترافه بأن ما يعتقده سابقًا كان مشوبًا بقلة فهم وكلية في الإحاطة المعرفية التامَّة بما يحدث.
وأخيرًا.. إنَّ إدراكنا المُعمَّق لكل أو معظم ما يحدث حولنا اليوم، سيقودنا إلى فهمه، أو على الأقل تقديره، من وجهة نظر ورأي من يُعايش ويُحلل الحدث، وذلك بوضع أنفسنا في موضعهم والتساؤل: لمَ يفرح شعب دولةٍ ما بسقوط نظام استمر لأكثر من 50 عامًا؟ ولماذا تظهر في نفس الوقت تناقضات تحاول اجتراح خواتيم مغبشة أو في منتهى السوداوية؟!
إذن.. لنقبل التناقضات دون مُكابرة أو التمسّك بقناعاتنا القديمة، ولنبتعد عن تأثير الترديد والتقليد الذي قد يُوقِعُنا في جدليات اعتقاد الحقيقة.