الكاتب: حمد الناصري
بعد تفرّق جموع الوفود الذين حضروا لمؤازرة "ثابت" وتنصيبه كزعيم لسيح المالح المُتحد، أثيرتْ فوضى في مُجتمع الحارات العشر، وخلقَ الرجال المُؤازرين لزعامة ثابت اختلافاً كبيراً، وبدت فجوة غائبة بين رجال سيح المالح المُتحد.
قال أحد رجال الحارة التاسعة:
ـ كيف لأقوام غُرباء يَستضعفونا على أرضنا فنَخْطُب وُدّهم لإسْكات الذين أثاروا نزعة القومية ونَتّهم عُروبتنا ، بإثارة القلاقل ونَصِف قومَنا بالخيانة ، ونستبدلهم بالذين هم أدنى جواراً لنا ، ونتخذهم أخِلاّء لكيْ تستقرّ أحوال مُجتمعاتنا وإنْ لم نفعل فلا يكن استقراراً مُطلقاً ، فالخونة من بيننا، والحقيقة أننا صِرْنا نُحارب بعضنا البعض بالشكّ والرّيْبة والتخوين ، نَفتن بعضنا لتتحوّل نفوسنا من سَليمة إلى بَغيضة وما اسْتَحسنته عُقول الغُرباء ، ولذلك تركناهم يَعبثون بحياتنا ، وكِلا الغُرباء شرقيون كانوا أو غربيون لا ثقة بهم والتاريخ أيها الرجال شاهداً على أحداثِ قديمة بأنهم خُصوم لُدّ بالبُغض والكراهية وأعْداء ألِدّاء حاقدين على عُروبتنا وعلى مُعتقدنا وعلى قِيَمنا التي هي أساس ثقافة قومِنا وركائز تربطنا بأخلاقنا وقِيَم عُروبتنا وتلكم المُعرّفات بكل ما تحمله من شواهد ، تعزّزت بأفعال رجال مضوا بشهاداتهم وقاموا عليها وحافظوا على عهودهم ومواثيقهم ، لا يَفترون عنها.؛
وكما تعلمون أنّ الغُرباء مُنذ العهد القديم أندادٌ وخُصوم وفي قاموسهم الفكري والثقافي ، يَعتقدون أنّ سَماء رمالنا جعلت الوادي فراشاً والجبال أوْتاداً وأعماق بحارنا قواعد لساحل طويل وعميق ، ساحل عُرِفْنا به حتى وقت قريب ولم يُنازعنا فيه أحد وكُنا أسْياد بحار لم يصل إليها أحد قَبْلنا .. والصُخور الصَمّاء، أكْسَبتنا صلابة وقوة.. ومِن الحجارة الصَلْدة ما يتشقق منه الماء فيخرج مُنساباً من علٍ أو من أسْفَل ، ماءً نقيّا.؛
قام أحد الحضور والناس في ذهول وقال بصوت عالٍ :
ـ أيها الناس .. عُوا ما يُحيط بكم، يا قومنا الأصْلاء، يا رجال الوادي الصغير، تفرّقكم انقسام وضَعْفكم تمزّق وشتاتكم وَهْن.. قرأنا قليلاً وسَمِعْنا كثيرًا بأنّ الغُرباء حاقدون على الوادي الصغير وعلى رماله الذهبية مُنذ قديم الزمان وكارهين لرجال أمّتنا القويمة ومُبغضين لقرية التراث ودّوا لو لمْ تكن لنا رمال أو جبال أو بحار أو قرية تُراثية مكينة أو قرية عالية أو حتى حارات وكثبان.
أخرجوهم من أرضكم، اطْردوهم من بحركم ، قاتلوهم في رمالكم .. إيّاكم أنْ يَستأثروا بثمرات كنوز رمالنا، احذروا أنْ يكونوا شُركاءكم في خيرات واديكم، فأهلكم وأشقاؤكم والأقربون أحقّ بها منهم.
أرجعَ ظهرهُ للخلف قليلاً واسْتقام والتفت إلى من حوله يمينًا وشمالًا، واستطرد.. أيّها الأعراب المُجتمعين ، أنتم صَفوة الناس ، وربّ الناس أصْفاكم بما هو خير لكم ، فلماذا تستبدلون بما هو أدنى .؛ الغُرباء ودّوا لو يَقطعون خيرات بحركم وثمار نخيلكم وكنوز واديكم ومُدّخرات رمالكم وقِيسوا على ذلك دوافعهم الأخرى ، لا تتركوهم على أرضكم بتاتاً ، ذلك ما يَتمنون ، وما سوف يُقدمونهُ لكم ، لهوًا ولَعِباً وخَبَثاً ، وإنْ قلّ ، فالقليل يَنمو ويتكاثر ويَكبر حتى تكونوا أمثالهم.؛ فإن صِرْتُم مِثلهم فأنتم يومئذ ضائعون تافهون ، مُشتتة أفكاركم ، مُتْعَبون ، كلما ظننتُم ضَللتُم.؛
قال ثابت مُعقباً :
ـ أيها الرجل .. قِفْ.. ليس كل شيء ، تُسطّره على هواك ، فأنا ما زُلت زعيماً على المُتحد ، ولا أرى بأنّ الغُرباء جميعًا لا مأمنَ منهم ، وليس كل الغُرباء خائنين ، ففيهم الصادقون والمُتعايشون مَعنا ويَجب أنْ نُحَكّم العَقل في التعامل معهم ، وكلا الغُرباء يَسْعَون إلى التقارب معنا ، هُم ليسوا بأشِقّائنا ولا روابط تجمعنا ، أندادٌ نُخالفهم في القِيَم والمُعتقد ، وعلى عِلاقة كبيرة بِقَدْر دوافع التنافس بين ذوي الوجوه الحُمر المًكتنزة وبين ذوي العيون الزرقاء ، وهؤلاء أي ذوو العيون الزرقاء هُم الذين كانت لهم الحَظوة ، هُم الذين استفدنا بعطاياهم وإكراميتهم وهُم الذين اهتموا بنا ، وهُم الذين يُمَنّونا بالسيطرة على الوادي.؛
وأمّا الأحداث الحالية بالوادي الصغير وما لحقَ مُؤخراً بالحارات العَشر وسيح المالح وقرية التراث والأعلى وقرية البحر ،وما ترونه من حال مُزْرٍ وضَعف واستكانة في مُجتمعنا وتفرّق ، فليستْ تلك نهاية المطاف فكُلنا ضحيّة أو ضحايا لهذا التنافس في مُجتمع الوادي الصغير ولا تزال تتعاقب علينا الأزمات، حتى نغرق في دمائنا ، وإثارة المَخاوف التي يُثيرونها لا تزال قائمة ، يَمُنّون علينا بالأمان بعد أنْ كانوا في سلام ووئام على أرضنا ، ولكنهم خرجوا على عهدهم ولم يصدقوا فأثاروا مخاوف واهية وخلقوا فوضى باهِتَة وجعلوا من أنفسهم مُخَلّصِين، وبتلك الفوضى لم تَزدهم إلاّ تخويفاً ، والأكثر دِلالة على قولي هذا ، أنّ الجوار البحري أشَدّ الناس من الغُرباء عداوة .؛ والذين يٌجاورننا من اليابسة هم قوم جاحدون وأصبحوا تائهين ، ثم كانوا أشد الناس نُكرانا للجميل.؛
تلك هيَ حقيقة مَخاوفنا سردتها عليكم لتعلموا حجم الشُعور الذي ظلّ يُلازمنا ذلك الشُعور كاليأس لم ينفكّ عنّا ، وهُم يَستغلون موقفنا الثابت كنتيجة طبيعية كي يُبقوننا في مَعزل عن الآخرين.
قال "عامر" الذي أدهش الحضور بتكرار أسئلته ووقف بجُرأة أمام غضب زعيم المُتحد :
ـ يا قومنا، إني أسألكم بطريقة مُختلفة، وأكرر السؤال مرة أخرى، هل وجدتم الغُرباء ذوو العيون الزرقاء يَقتلون ذوي الوجوه الحُمر المُكتنزة وجهاً لوجه بعلّة ضَعفنا.؟ بالطّبع الجواب بداهة بالنفي، لم نرَ ولم نجد ولم تُحدّثنا كُتب الأسرار ولو مرة واحدة بأنّهما تقاتلا دفاعاً عنّا.؟ لكنهما تقاتلا لمصالح لهم.. ومنافع الغُرباء لا تقبل بتشارك أكثر من طرفين فيها ، وتنازعهما وجهًا لوجه ليس علامة تقارب ولا دليل على وفاء أو إخلاص ، وإنما دوافع المصالح قد تُؤجج علاقتهما ومنافعهما أهمّ مما نحن نتحدّث فيه.؟
والسؤال يُعيد نفسه.. إذنْ ما هي المُشكلة؟! وأين تكمن.؟ اسمعوا ما أقول لكم، وأشار إلى ثابِت، هو يُخبركم عن يقين تتساءلون عنه.؟ فعَلّهم ـ الغُرباء ـ أرحامكم وأنتم لا تدرون.؟
قال ثابتُ يُرقّع موقفه وفي نفسه ضيق وغضب:
ـ الاختلاف واقع ومُهم لكلّ طرف بل هو أمْر مَطلوب في كثير من الأحيان ، وقليل من الحياة المُستقرة خيرٌ من فوضى مُستمرة ؛ نحن نحتاج إلى الغُرباء ، وهذا زمن تداخل المصالح وتفاهمات المنافع ، ولكلّ مِنا مصلحة ومنفعة.؟ فلماذا إذنْ نتركهم يَختلفون طمعاً في خيرات بَحرنا وكنوز رمالنا ومَخزون جبالنا، أولَسْنا أحقّ بها منهم.؟ والسؤال الأكثر إدراكاً وله مَغزى حقيقي.. لماذا نجعل من بَحرنا هدف أو نجعل من رمالنا غاية.. وأشار إلى "عامر الرجل الذي يقف بجرأة مُخالفاً زعامته لسيح المالح" أليستْ تلك المطامع ـ التي تحدثت عنها بأنها منافع لهم وهدف يتنازعون بينهم على أرضنا التي هيَ من شأننا.. والإجابة بديهية يا أخ العُروبة.. تبادل المنافع يَنبع من أمان المُجتمعات وتلاحمها ببعضها، وأيّ خَلل يقع، هو نافذة مَفتوحة يَدخلون منها.. والسؤال أكرره مرة أخرى، لماذا نجعلهم يَقتسمون كل شيء ويُوزعون الأدوار كيف شاءوا ورغبوا كأنها أرضهم ومِلكا لهم.؟!
وأمّا المشكلة التي تتساءل عنها والكامنة في هذا الشأن.. فنحن الأعراب نتخاصم اليوم ونختلف وغداً نرضى عن بعض ونتفق.؛ هذه هي سَجِيّتنا منذ الأزل.. الوادي الصغير مَنبع تقاليدنا وقرية التُراث أساس القِيَم والقرية الأعلى والبلدة العتيقة صَمام أمان وقرية البحر عُنق الرمال، فما هي فائدة جسَد لا عُنق له .؛
وردّي على تساؤلك الأول ، أقول لك الغُرباء أنْداد بعض ، قد يُعرض أحدهم عن قِيَم ، ويتقبّلها الآخر ، إلا مصالحهم يُؤمنون بها ، فالمصالح تعود عليهم بالمنافع ؛ ونحن الهدف والغاية أننا مُستهدفون ، والقاعدة الشائعة لديهم " من يُفكّر كثيرا ، يَستفد كثيراً ومَن لم يرَ الهدف سيكون هو المُستهدف أخيراً " وهُم الآن يُطبقون قاعدتهم وأفكارهم على أرضنا وفي بحرنا ، فالغُرباء هم غُرباء، شرقيّهم وغربيّهم ولا يُنتظر منهم أنْ يُفكّروا لك ، دون منافع لهم ، فهم يَنظرون إلى الهدف لتستقر أفكارهم على المُستهدف؛ وطبعاً المُستهدف هنا نحن الأعراب جميعاً ، ومن مَسؤوليتي المُحافظة على استقرار سيح المالح المُتحد والأمر قد يتعدى إلى كل بقاع الحارات والرمال والكثبان وقرية التراث والقرية الأعلى والبلدة العتيقة وقد يَنسحب ذلك إلى أمكنة الوادي الصغير ذلك ما يُخفوه عنكم.؛
وأنا أحذّركم.. لا تجعلوا الوادي في اضطراب وخوف وقلق مُستمر، فإن تنازعتم وتشاققتم، فإنّ ثروات وخيرات بحركم وكنوز أرضكم وجبالكم ستكون في أيديهم شئتم أم أبيتم.
وأنصحكم مرة أخرى ، لا تجعلونا على فوهة نيران أفكارهم العُدوانية وقذائف تعصّباتهم الحاقدة، فهم يقفون على رؤوسنا وينتظرون شرارة واحدة ثمّ ما بين غمضة عين وانتباهتها تجدون مُرتزقة يقتلَونكم بأموالكم وباسم الربّ يَسفكون دماءكم وباسم الربّ يتكاثرون عدداً في أرضنا ويرتفعون شأناً ، ويتطوّرون إلى مُستوى عالٍ ورفاهية مُزدهرة بأموالنا وثرواتنا وكنوزنا ويَتقدّمون ونحن نبقى على حالنا ، كما كُنّا ، على خلافات مُستعرة في البحر والأرض والجبال والرمال ، ونُؤلّف في ذلك كٌتُبًا قيّمة في التاريخ بأنّ الغُرباء سَلبوا أموالنا واغتصبوا نساءنا وفي ذلك بلاءٌ من ربّ عظيم.
أليس هذا ما دَوّنته الأقلام وخزّنَته ذاكرة عُروبتنا .. إذنْ ، السؤال المُدهش يا عامر الماجد ، أنّ الأطماع أهداف الغُرباء ، شرقيهم وغربيهم على السّواء ، وأنّ الجارين الذين ذُكِرت سيرتهم الحاقدة للوادي الصغير وبيّنتهم لكم ، هُم أعداؤكم فاحذروهم.؛
قال غلام الباشق مُستشار المُتحد مُستأذنا زعيم المتحد:
ـ وعلى هذا الأساس الغُرباء يَتقاتلون لا من أجلنا بل هم يَقتلوننا بأيدينا ، بثروتنا وكنوزنا وأموالنا ، والرِهان التي يتنافسون عليها هي ثروتنا وكنوزنا لا حُباً فينا ولا في وادينا الصغير، ، وأقول بصريح العبارة ، أنظارهم تحوّلت إلى ما يَقتسمونه من خيراتنا ، هكذا ما اطّلعتُ عليه ، ثم يُقَدّمون لنا فُتات من ذخائر أمْوالنا، ويُفرّقونا بها ومن هذه التفرقة نتمزّق ونضعف، ونظلّ في حاجة إليهم نظير ما يُقدمونه من دعم من أموالنا ومن فُتات ثروتنا وكنوز أرضنا التي يَنعمون بها ويَردونها إلينا على شكل مُساعدات إنسانية وما هي بإنسانية وإنما هي لأغراض سيئة وأهداف لا إنسانية فيها غير وقاحة من عند أنفسهم وفُتاتٍ يُقدموه لنا من حرّ مالنا وثروة مُستقبل أمة الأعراب.؛
قاطعه عامر النجدي بجرأة:
ـ ذلك نعرفه ولم تأتِ بجديد .؛ بُغض دفين نعرفه وقُبح لئيم نفهمه ، لكنهم يا ـ ثابت ـ ولم ينادِه كزعيم للمتحد.؛ باسم الربّ ، أذلّوا كرامتنا وباسم المَجد هَزوا عنفوان شُموخنا ، فلنكن رجالاً على أرضنا ، ولماذا نحن صاغرون رغم معرفتنا كل شيء.؛
إنْ كنا في نظرهم لا نستحق العيش فما فائدة الكنوز التي نحرسها ونَسْهر لنُحافظ عليها في أمانٍ ثم نُقَدّمها أطباقاً شهية لأعدائنا.؛ هذا أمر غير مقبول على الإطلاق.
اسمع ما أقول لك والناس يَسمعون والحاضرون صامتون، يَفهمونني بلسان غير ذي عِوَج.. الغُرباء جمعاً يَدّعون مُحاربة الفساد، وهم يُحاربوننا بأقسى الأساليب وأشدّ ألوان المَصائب ويُدافعون عن القِيم ويُفسدون شُعوبنا ويُخربون بيوتنا بأيدينا، ولُغة حالهم إنما نحن مُصلحون ألا إنهم هُم المُفسدون ولكن لا يَشعرون.
لاح صمت شديد، صمت هزّ المكان، صمت يُشبه صمت الليل، صمتٌ غامض كصمت القبور لا تفسير له، لحظات شديدة الغُموض وأنفاس الناس محبوسة، كأنّ شيئا مُخيفًا حلّ في إحساس الغموض، يُنبئ عن شيء مُخيف آت.
اندفع عامر النجدي الرجل الذي أدهش الناس بجرأته ووقف في وجه زعيم المتحد يُجادله بقوة ومُتمسّكاً بقوله، رافضاً ولاية الزعيم ثابت:
ـ الغُرباء ـ أيها الجَمع المُبارك، قِيَمهم فاسدة، مُخالفة لقيم مُجتمعنا الأصيل، وضِدّ ما نَعتقد وما نُؤمن به ، يَعْتدون على حدودٍ نحن بها مُطمئنون ، لا يُخفون سِرّهم بمعاداتنا ، يُكذّبون عقيدتنا جَهْراً ويَعصون بِمُنكراتهم خطوط أمْننا ويرفضون مَساعينا لأجل السلام ، ولا يُستثنى منهم أحدٌ، بيض وحُمر وذوو الأنوف الفطحاء وفارعو الطول وذوو العيون الزرقاء والسوداء ، شرقيهم وغربيهم.
وقف بُرهة.. يتأمل الأفق البعيد، يَنظر في أطراف السّماء، نظرةَ بلغت أقصاها إلى نورٍ ينتهي إليه كل شيء، مدّ عينيه إلى أطراف بعيدة، إلى نقطة النور، فتخيله كخطوط سفينة تُبحر في السماء، يا له من مَشهد عظيم، زاغ بصرهُ وتَعِب وكان في حيرة من أمره.. وظلّ يتساءل، لماذا يتضاءل بَصري ولم أعد أُبْصِر كما كنت.؟ تُرى، ما الذي حدث لعَيْني أزاغت؟ أم أنّ البصر قد ضاع؟ ثم أردف.. أيها الجمع المُبارك، أنتم أهلي وجماعتي، وهذا الذي أمامكم، إذا كنتم تثقون بي، فأنا أقول لكم، أنّ ثابِتًا هو الخوف بعينه.؟! كانت فلسفته قاسية "من لم يكنْ معنا فهو مع غيرنا، ومن لا يتماشى مَعنا فهو عدوّنا.؟" فعل ذلك حين اكتسب من الغربيين جُرماً ولم يكسب مالاً ، والذي فعَل جُرماً ، ماذا تتوقعون منه أكثر من ذلك.؟
عقّب ثابت المُتمسّك بزعامة المُتحد ، رغم أنه يعلم يقيناً بأنه غير مرحّب به في زعامة سيح المالح ، وأنّ قومه خذلوه من أول وهلة فأردف:
ـ دعوني أحدثكم من مُنطلق الأمانة التي ألقيتموها إليّ وتكليفكم لي بمسؤولية وزعامة سيح المُتحد، ويومئذ فصّلته تفصيلاً، والواجب أنْ نتّحِد وأنْ نَتّفق ولا نختلف في أمر الغُرباء ذوي العيون الزرقاء والغُرباء ذوي الوجوه الحُمر المُكتنزة، وجميعهم لا خير فيهم ورغم عِلمي بذلك وربما أنا على يقين تام بالأمر .. ولكنني أرى ما لا ترون، فمن منافع المُتحد هيَ المُحافظة على أمن واستقرار القريتين البحرية والتراثية والأحياء المُتفرقة، باسم "الوادي الصغير" هذا الوادي الخالد سيبقى رئة قُوتنا وحقيقة تاريخنا وصُمود رجالنا المُؤمنين بعلاقتنا ببعض ، توافقاً وفِكْراً واتّحاداً غير مُفَرّق.
ومن الذكاء بمكان أنْ نجمع أمرنا على توافق وأمن واستقرار فالوادي الصغير يستحق ولفضله علينا أنْ نسير بهمّة ونشاط وهدوء تام ، حتى نجد توافقاً يُلامس الأفكار المُختلف عليها، ونبقى على علاقتنا الأولى وعلى سيرة طيبة مع ذي الوجوه الحُمر المُكتنزة، ونُبقيها على أشدّها.. وأنْ نسعى بذكاء لا تفريط فيه ونُهادن الغُرباء ذوي العيون الزرقاء لمآرب لنا، وذلك لإبقاء التوازن قائماً، على قِيَم نُؤمن بها، ونُحافظ على رسالتنا التاريخية التي نحن مُطمئنون بها ، ولا نقبل أنْ يُبَدّلونها إلى طرب ولهو وتفاهة هُم بها مُستمتعون، وعلى أفكارها يَقفون .؛
وأمّا ذوو العُيون الزرقاء فهم لا مُعتقد لهم ولا قيَم ، والحياة في فكرهم تسير ولا تتوقف وتتجدّد ولا علاقة لها بأيّ قوة أو نشاط أو ارتباط ، ونحن في الوادي الصغير جميعاً نُدافع عن القِيَم ونُؤمن بالحقيقة ونطمئن بالحياة ، وتلك هيَ العلاقة التي نُؤمن ونعمل من أجلها.؛ ونزداد قوة ورِفْعَة ونزداد نوراً نهتدي به ، ولا يُمكن بحال أنْ يكون من بين أيدينا مَن يُدَمّرنا بلهو سافر وحُجج لا قِبَل لنا بها.
والحقيقة أيها الرجال، التي لا ثانيَ لها.. فإنْ هُم دخلوا الوادي الصغير واتفقوا على تقاسم كل شيء، فسوف يُغَيّرون جُذوره الإنسانية ويُزيفون تاريخه العريق ويَنسفون مُعتقد السلام وسوف يأتون بأفكار لا شأنَ لنا بها، ولن تجدوا السلام ولا الأمان.؛
وكانَ وُدّي أن اُطْلعكم على أفكاري التي آمنتُ بها ، فأنا أمينٌ على الثقة التي عاهدتكم عليها ولا زلتُ على عهدي بها ولن أنكث وعْداً قطعته على نفسي ولن أنقص منه شيئاً.؛ ولكنكم خالفتموني مَنطقاً، ومن يومها وأنا لكم من الناصحين ، وكان الثبات والعزم من واجباتي الوطنية لتثبيت مَسارنا التاريخي العظيم ونُحافظ عليه من همجيّة ذوي العيون الزرقاء وعجرفة غُرباء ذوي الوجوه الحُمر وآخرين من أمثالهم داخلين معهم في نفس المَسار ونفس الرؤية والمَطلب والدوافع ، فلنجعل من الوادي الصغير والقريتين والمُتحد ومن تبعها من أحياء الكثبان وقرى الرمال فخرًا لنا ولأجيالنا المُتعاقبة ، وفي جُعبتهم إعداد مركز ثقافي يقوم على ترسيخ مَلامح قِيَم الغرب والشرق معاً ، لتكون راسخة في أفهام الرجال صغاراً وكباراً وعلى أرضنا .. والسؤال أطرحه عليكم ، هل يحقّ للغُرباء شرقيّهم أو غربيّهم بأنْ يَتباهى بالسلام والأمان على أرضنا ونحن الذين قاتلنا من أجل السلام ونُؤمن به قَبْلهم لسنين غابرة ، ودعوتنا الإيمانية أمان للناس جميعاً ، وذلك ما نُؤمن به ، في علاقتنا بالآخر وما نشعُر به ونتضامن مع بعضنا بأهدافه وغاياته.
وأخيراً أقول ، بأنّ وادينا الصغير والمُتحد والقريتين والبحر الكبير والعميق خطاً أحْمَر، وأننا لن نفتح طريقاً إلى اللّهو والترف الماجِن ، ولا نأتي بحكايات نتراقص عليها طرباً ولا نقرأ روايات فاسدة تأصّلت بقيم لا خلاق لها..؛ وكل أولئك وما ذكرته، يُمثلون ضَررا بائنًا ، ويُؤثّرون على عقيدتنا وعلى ما نُؤمن به من قِيَم وعادات.. فأنْ نَصُون تُراثنا ببقائه وإدامة تاريخنا الثابت فنحن في عِزة وشُموخ وفي قوة كقوة جبالنا الصامدة، وكعظمة تاريخ بحرنا الكبير الذي نتباهَى به ولا نَسْتصغر أرضاً نشأنا عليها ولا ننقص منها شيئاً ولا نُبدّل حقيقة فيها.؛ ذلك ما يجب علينا فِعْله وهو أنْ نبقى على تحدٍّ ، وأنفسنا عالية وثّابة كالرمال.؛
قال رجل من القريتين ، أشيب الشعر :
ـ والأهم أيها الناس المُحافظة على مُكتسباتنا .. رجال الوادي قوتنا وشُموخ رجال سيح المالح عزّتنا.. وقرية التُراث تاريخنا وقرية الأعلى سيرتنا وقرية البحر تاج وعلامة تَجمع كلّ أولئك، قُوة وعِزّة وشُموخًا.
يا قومَنا أجِيْبونا نهتدي بكم وعَرّفونا نُهديكم سلام قلوبنا، ونخصّكم بالأمان.. وعلى ضوء ما أفسدهُ الأخوين " فالع وفلوع " نُبْلغكم بأنّ "فالع" فاسِدٌ وخائن للعَهد، وهو الذي أفسد أخيه" فلّوع" فأضْحَت البلاد مرتعاً للفساد، يَعيث فيها الضالون ، ينهبون حقوقنا ويَسْترقّون ضِعاف رجالنا ، ويَجُرون الوادي الصغير إلى فوضى وخوف وقلق وهما اللذانِ أدخلا الغُرباء في وادينا ، فدنّس أشرارهم ثقافتنا.. واليوم ونحن نستعيد قوتنا، بتوافقنا وجَمْعَنا هذا ، ونحن في أعزّ قوة ومكانة ، فإني أشير إلى من يقود الوادي الصغير ، مُسَمّى تنضوي تحته كل القرى والحارات ، ليكون الوادي الصغير كتاباً نقرؤه ، والمُتحد قِيمًا نَتّبِعها والقرية البحرية الأمل والمُستقبل وقرية التُراث تاريخ راسخ والبلدة العتيقة عراقة المَجد، وأحياء الوادي والكثبان والرمال مُكتسبات يجب صَونها ، ونحن في القريتين ، قرية التُراث والبلدة العتيقة اتفقنا على أنْ يُحاكم " فالع وفلوع " بالعذاب تارة نكالاً وعقوبة .. فمن يُسيء مرة سوف يفعلها مرة أخرى او يكون دافعاً لغيره للسير على نهجه.. فالأخوان " فالع وفلوع " نقضا العَهد ونحن نُقيم عليهما الحدّ ، كأقلّ عقوبة لما نكثا به من عهد ووعْد وكَذبا على الأمة التي منحتهم الثقة .؛ والحق ، إمّا أنْ يُعذّبا بعقوبة رادعة وإمّا أنْ نترك الحبل على الغارب وإنْ استشرتْ الخيانة في المُجتمع فلا عهد ولا أمانة للخائن ومن لم يُراعِ الصِّدق والوفاء فيهما ليس له قِيْمَة ، فهو كمنْ نبذَ المسؤولية بكل قِيَمها المعروفة.
لقد استطاع رجل عظيم، رشيد الفكر ـ عامر النجدي ـ هو ذلك الرجل الذي قام بعمل بطولي ورجولي، لم يَقُم به أحد مِن قَبْلِه.. حفر الأنفاق وجعل باطنها ظُلمات، لا يستطيع الغُرباء سَبر أغوارها، قَدر عليها فجعل مَدخلها مُكفهراً عبوساً ولا يخرج منها غريبٌ إلاّ نكداً ، ذلك لأنّ المخرج مفتوحٌ على بحر غليظ في سِحنته ، في عُمقه رَهبة وخوف ، ظُلمات النّفق كالمخرج ، ظُلمات أشدّ قسوة ورهبة.
قال رجل أحمق وقد احْمَرّ وجهه وغدا كبسرة الزّام وأخذ ينظر باحتقار إلى "ثابت":
ـ من نصّب نفسه خليفة وزعيماً، قد أسّس الخيانة في مُجتمع الوادي، ومن صادق على أنْ يكون سيح المالح، مُتحداً ينفرد برأيه عن رجال الوادي فهو رجل غير جدير بالمسؤولية وغير مُناسب للزعامة.. ويُقال، اللُقطاء سَيّئوا المِعْشر ومن كان لقيطاً، غلبت عليه عدالته، والسيء ماكرٌ، ومن يحيق بأهله سُوءاً وحقارةً لا إنسانية له ولا يكنْ سيّداً أبداً.؛
بدتْ الأشياء كأنها أحزان مُنتظرة، تركَتْها الأمكنة كمشاعر بلون الغَدر القاتم، وبدت ملامح الوجوه مائلة على غير ألوانها الطبيعية ومُثقلة بأسْقام وأوجاع كشفت عن تقاسيم حزينة غاية في الأهمية.
يتبع 13