شتائم خادشة للحياء وفضائح السياسة الأمريكية في كتاب "الحرب" المثير للجدل

 

الرؤية- خاص

إذا كانت الصحف هي المسودة الأولى للتاريخ، فإن كتب الصحفي الأمريكي الشهير بوب وودورد يمكن أن تدَّعي أنها المسودة الثانية؛ إذ إن الاقتباسات من اللاعبين الرئيسيين هي ما لا يمكن لمراسلي الصحف أن يحلموا به إلّا في قصة عاجلة.

الكتاب الجديد لوودورد الذي يحمل عنوان "الحرب"، ويتناول الأعمال الداخلية للبيت الأبيض في عهد الرئيس الأمريكي جو بايدن، يمثل مسودة ثانية جديرة بالاهتمام، على الرغم من أن قصته ربما كان من الأفضل أن يكون عنوانها "حروب" في صيغة الجمع لا المفرد.

يقدم كتاب وودورد الأخير "الحرب" استكشافًا تفصيليًا من وراء الكواليس للصراعات الرئيسية خلال رئاسة بايدن. ويغطي الكتاب قرار بايدن بانسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، ويصور الخروج الفوضوي وعواقبه من هذا البلد المسلم، فضلًا عن التعامل الاستراتيجي للرئيس بايدن مع الحرب الروسية في أوكرانيا. كما يسلط وودورد الضوء على نجاح بايدن في توحيد حلف شمال الأطلسي (الناتو) واستخدام الدبلوماسية للضغط على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. يقول وودورد إن هذا النهج وضع بايدن كزعيم حازم، وتمكن من اكتساب ميزة تكتيكية على بوتين.

يتعمق وودورد أيضًا في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، موضحًا العلاقة المعقدة بين بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. يصف الكتاب إحباط بايدن إزاء إحجام نتنياهو عن السماح بدخول المساعدات إلى غزة أو الموافقة على وقف إطلاق النار، ويبرز التوازن المعقد والمتوتر غالبًا بين أهداف السياسة الخارجية الأمريكية والسياسة الداخلية لإسرائيل.

من خلال قيامه بالعديد من المقابلات وحصوله على الكثير من الروايات الداخلية داخل الإدارة الأمريكية، يقدم وودورد تصويرًا حيويًا للمناقشات الدبلوماسية ومعضلات السياسة وردود أفعال بايدن الصريحة، وخاصة في تعاملاته مع القادة الدوليين مثل نتنياهو.

كتاب "الحرب" الذي صدر في 15 أكتوبر المنصرم- ككتب الصحفي الأمريكي الاستقصائي، بوب وودورد الأخرى- أحدث ضجة واسعة وأطلق عليه البعض "كتاب الفضائح". فمن خلال مئات الساعات من المحادثات السرية التي أجراها وودورد مع عدد كبير من المسؤولين في البيت الأبيض، يكشف كتابه عن اتهامات لمسؤولين عرب فيما يتعلق بدعم الاحتلال الإسرائيلي بالحرب الدائرة على غزة.

كما يروي وودورد طريقة بايدن وكبار مستشاريه في اتخاذ القرارات المتعلقة بعدوان إسرائيل على قطاع غزة، وكذلك الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وصولًا إلى الصراع على الرئاسة الأمريكية.

في المقابل، يُصوَّر الكتاب الرئيس الأمريكي السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترامب كشخصية مزعجة؛ حيث يكشف أنه يتواصل بشكل متكرر مع بوتين حتى بعد الرئاسة، وهو ما يصفه وودورد بأنه أمر مزعج ويعكس نفوذ ترامب المستمر ووجوده المثير للانقسام في السياسة الخارجية الأمريكية.

أسلوب وودورد معروف ويمكن القول إنه فريد من نوعه، كما يوضح هو نفسه قائلًا: "أُجريت جميع المقابلات لهذا الكتاب وفقًا لقاعدة الصحفي الأساسية ’الخلفية العميقة‘، وهذا يعني أنه يمكن استخدام جميع المعلومات، لكنني لن أقول من قدمها". يُترَك القارئ ليتأمل لماذا قالت المصادر ما أخبرته به وودورد. وأيضًا، لماذا صدق وودورد ما قيل له؟ بعد كل شيء، هناك قاعدة أساسية أخرى للصحفي وهي عدم السماح لنفسه بأن تتلاعب به مصادره.

وتحيزات وودورد واضحة، بالنسبة لترامب، فهو "ليس فقط الرجل الخطأ للرئاسة؛ بل إنه غير لائق لإدارة البلاد". وبالنسبة لبوتين، يقتبس تعريف وكالة الاستخبارات المركزية  له بأنه "الذي يتميز بانعدام الأمن الشديد والطموح الإمبراطوري".

ويقع الكتاب في 370 صفحة من القطع المتوسط، إضافة إلى ملاحظات المصادر والفهرس، مقسم إلى ما لا يقل عن 77 فصلًا، بعضها قصير لا يتجاوز الصفحة. إنه نوع الكتاب الذي قد ينتهي الأمر بالعديد من القراء إلى وضع علامات على الصفحات بطريقة أو بأخرى.

يقدم الكتاب فحصًا دقيقًا لنهج إدارة بايدن في السياسة الخارجية وسردًا للآثار الأوسع لهذه الصراعات العالمية على دور أمريكا في العالم.

يتحدث الصحفي المخضرم عن غضب بايدن من نتنياهو ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وأسلوب كامالا هاريس الدبلوماسي العلني في مقابل نهجها السري الخاص.

عندما بدأ المؤلف كتابة كتابه، كانت حرب أوكرانيا هي القضية المهيمنة، لكن هجوم حركة حماس، طوفان الأقصى، على كيان الاحتلال الإسرائيلي في 7 أكتوبر 2023 استحوذ على المزيد من العناوين الرئيسية منذ ذلك الحين.

يوم 12 أكتوبر 2023، هبطت طائرة بلينكن في فلسطين المحتلة وذهب مباشرة للقاء نتنياهو في مجلس الحرب، قال نتنياهو: "نحن بحاجة إلى ثلاثة أشياء: الذخيرة، والذخيرة، والذخيرة"، فرد بلينكن: "نحن نقف معكم، نحن نقف معكم، نحن نقف معكم". ثم سأل بلينكن نتنياهو عن وضع المدنيين في غزة؟ كان رد نتنياهو سريعًا: "سنطردهم جميعًا إلى خارج غزة نحو مصر"، تفاجأ بلينكن ولم يعلق.

مثل نظرائهم الإسرائيليين، فوجئ مسؤولو الاستخبارات الأمريكية بالهجوم الذي شنته حماس في 7 أكتوبر 2023. وقال مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان: "إن هجوم حماس في 7 أكتوبر كان أكبر فشل استخباراتي في تاريخ إسرائيل"، في حين قالت مديرة الاستخبارات الوطنية أفريل هاينز: "لا شك أن هجوم 7 أكتوبر كان مفاجأة". بعد ساعات من هجوم طوفان الأقصى، ينقل وودورد قلق نتنياهو بشكل خاص من أن يشن حزب الله هجومًا على إسرائيل من الشمال إذ اتصل بجاك سوليفان وأخبره بمعلومات كاذبة عن هجوم واسع يقوم به حزب الله، ثم قال له: "جاك، نحتاج منك الآن أن تهدد حزب الله".

بعد أن حصل سوليفان على موافقة بايدن، اتصل بمستشارة السياسة الخارجية ورئيسة هيئة الأركان، كيلي ماجسامين، وأمرها بأن تحرك حاملة الطائرات في البحر الأبيض المتوسط التي كانت تساعد أوكرانيا إلى شواطئ لبنان. لكن القيادة الوسطى الأمريكية اكتشفت أن المعلومات الإسرائيلية عن هجوم حزب الله كاذبة.

إحباط بايدن من كذب نتنياهو

يكشف وودورد عن مدى الإحباط الذي أصاب بايدن تجاه نتنياهو ويصف العلاقة المتقلبة بين الرجلين في أعقاب هجوم 7 أكتوبر 2023 ، فبينما أعرب بايدن علنًا عن دعمه القوي لإسرائيل. ففي الخفاء كان مستاءً من نتنياهو وشتمه في كثير من الأحيان بألفاظ خادشة.

وبعد أن اغتالت إسرائيل أحد كبار قادة حزب الله فؤاد شكر، والقيادي البارز في حماس إسماعيل هنية، في أواخر يوليو الماضي، صاح بايدن في وجه نتنياهو عبر الهاتف قائلًا: "أنت تعلم أن صورة إسرائيل اهتزت في جميع أنحاء العالم"، رد نتنياهو: "هذا هنية أحد الإرهابيين، لقد رأيناها فرصة واغتنمناها، وكلما زادت قوة الضربة، زادت فرص نجاحنا في المفاوضات".

لكن إحباط بايدن من نتنياهو ازداد مع استمرار الحرب؛ إذ اشتكى لأحد أقرب مساعديه في البيت الأبيض من كذب نتنياهو باستمرار، قائلًا: "نتنياهو ابن عاهرة، وكذاب لعين وشخص دنيء للغاية"؛ بل ذهب بايدن إلى أبعد من ذلك وقال: "إن 18 من أصل 19 شخصًا يعملون مع نتنياهو كاذبون".

مع ذلك، رفض بايدن وقف إمداد إسرائيل بالأسلحة، واستمر في تقديم مليارات الدولارات من المساعدات، وفشل في منع وقوع كارثة إنسانية في غزة، أو الضغط على نتنياهو لقبول وقف إطلاق النار.

نفاق هاريس

يكشف وودورد أنه حين كانت نائبة الرئيس كامالا هاريس تظهر تعاطفها مع معاناة الفلسطينيين في وسائل الإعلام، غضب نتنياهو منها لأنها تناقضت علنًا مع نهجها الأكثر ودية في اللقاءات الخاصة التي دارت بينهما. يقتبس وودورد من السفير الإسرائيلي في واشنطن مايكل هيرتزوغ قوله عن هاريس: "إنها تريد أن تكون صارمة في الأماكن العامة، لكنها لم تكن أبدًا كذلك في الغرف الخاصة". لكن، لم يحصل مرة واحدة أن اختلفت هاريس جوهريًا مع دعم بايدن المستمر لإسرائيل، يؤكد وودورد.

محادثات ترامب مع بوتين

أحد أكثر الجوانب التي أثارت ضجة الرأي العام الأمريكي حول كتاب وودورد، فهي كشفه عن محادثات خاصة بين بوتين وترامب بعد أن غادر الأخير البيت الأبيض، ينقل الكاتب عن مساعد لترامب أن ترامب اتصل ببوتين سبع مرات منذ أن ترك البيت الأبيض، وبعث إليه سرًا أجهزة فحص فيروس كورونا خلال تفشي الوباء عام 2020 في وقت كانت الولايات المتحدة تواجه نقصًا في الأجهزة.

صحة بايدن

ولعل أبرز ما يكشفه الكتاب عن تدهور صحة بايدن حينما يقول: "تسببت المناظرة الرئاسية في يونيو 2024 مع ترامب في سحب بايدن ترشيحه، ولكن إلى متى كانت صحته العقلية موضع شك؟".

يروي وودورد تفاصيل 3 حملات جمع تبرعات مختلفة قبل عام، في يونيو 2023، عندما أخبره المشاركون لاحقًا أن الرئيس "مثل جدك الخرف البالغ من العمر 87 عامًا" و"لم يكمل جملة واحدة". في مايو 2024، في حملة لجمع التبرعات في وادي السيليكون لحوالي 30 شخصًا، اعتقد الضيوف أنه استخدم جهاز التلقين.

وفي جزء آخر من الكتاب، يروي المؤلف أن وزير الخارجية توني بلينكن كان في زيارة إلى المملكة العربية السعودية كجزء من رحلة إلى الشرق الأوسط مباشرة بعد هجمات 7 أكتوبر على إسرائيل على أمل مقابلة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. وقد قيل له أن يكون مستعدًا للاجتماع إما في وقت لاحق من تلك الليلة أو في وقت مبكر من صباح اليوم التالي. وكانت النتيجة أن أبقاهم محمد بن سلمان منتظرين حتى الساعة السابعة صباحًا.

تحدث وودوورد عن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وقال إنه "على الرغم من أكثر من 50 اجتماع تخطيط، فإن انسحاب إدارة بايدن (في 2021) من أفغانستان تحول إلى فوضى مدمرة. لقد فشلوا في توقع حالات الطوارئ والتخطيط لأسوأ السيناريوهات. وعندما خططوا، كان الأوان قد فات".

وتضمن الكتاب "أكثر المصادر ثرثرة": على الرغم من عدم الكشف عن هوياتهم، يبدو أن الكثير من الكتاب عبارة عن ذكريات وزير الخارجية الأمريكي توني بلينكين، ووزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية وليام بيرنز، ومستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، ومنسق مجلس الأمن القومي الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط بريت ماكغورك.

كما اشتمل على "أكثر لغة سيئة"؛ حيث يبدو أن بايدن هو الفائز الواضح بهذه الجائزة المشكوك فيها. يقول بايدن: "بيبي (نتياهو)، ماذا بحق الجحيم (what the f***)؟"، هكذا صرخ بايدن في الهاتف على نتنياهو، وهو مثال ملائم على اللغة البذيئة التي يستخدمها. ومع ذلك، يتساءل المرء لماذا يخبر "صديق" للرئيس الأمريكي وودورد أن بايدن قال له: "لقد أمضيت خمس ساعات ذهابًا وإيابًا، ذهابًا وإيابًا على الهاتف مع اثنين من أكبر الحمقى في العالم - بيبي نتنياهو ومحمود عباس (الزعيم الفلسطيني)".

الحكم العام لوودورد على رئاسة بايدن أنه كانت هناك إخفاقات وأخطاء، "لكن الرئيس بايدن وفريقه سيتم دراستهم إلى حد كبير في التاريخ كمثال للقيادة الثابتة والهادفة".

يُشار إلى أن بوب وودورد صحفي أمريكي ولد في في 26 مارس 1943، وهو الآن في عمر 81. ويعد وورورد من أهم صحفيي التحقيقات الأمريكيين، ومرجعًا في صحفة الاستقصاء في العالم، عرف بأنه مفجر فضيحة "ووترغيت" التي دفعت الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون إلى الاستقالة عام 1974، وظل منذ ذلك الحين يكتب تباعًا عن جميع الرؤساء الأمريكيين، حتى لُقِّب "بحامل مفاتيح البيت الأبيض".

بوب وودورد.jpg
 

"ووترغيت" من أشهر الفضائح الأمريكية، وقعت بعد قيام نيكسون بالتجسس عام 1972 على مكاتب الحزب الديمقراطي في مبنى ووترغيت، مما أدى بعد كشف الواقعة إلى إعلان استقالته في أغسطس 1974 ومحاكمته قبل أن يصدر الرئيس جيرالد فورد لاحقًا عفوًا عنه.

وتمكن وودورد من تأليف نحو 40 كتابًا طوال مسيرته المهنية، صنفت 16 منها بأنها أكثر مبيعًا في الولايات المتحدة، وقد تناول في بعضها أسرار وخفايا عدة حروب تورطت فيها أمريكا في العالمين العربي والإسلامي.

ومن أشهر كتبه، كتابان نشرهما بالتعاون مع الصحفي كارل برنشتاين حول فضيحة ووترغيت، وهما: "رجال الرئيس" عام 1974، و"الأيام الأخيرة" عام 1976. وله مؤلفات أخرى أبرزها:  "القناع" عام 1990، و"القادة " عام 1991، و"أسرار ما قبل وما بعد حرب الخليج"، و"حروب بوش" عام 2002، و"خطة الهجوم" عام 2004، و"الرجل السري" عام 2005 و"حروب أوباما"، وكتاب "الخوف: ترامب في البيت الأبيض" عام 2018، وأخيرًا كتاب "الحرب".

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة