ماجد المرهون
صحيفة شهيرة وشخصيات معروفة وقنوات فضائية مبثوثة طالعتنا الأيام الماضية وهي تلغ بألسنتها في طهر حياض القضية الفلسطينية وتلسع بسياط دنس محرريها ومحدثيها ظهور المقاومين الأحرار ورموزهم، وهو انحطاطٌ في التزييف والتحريف لم يسبق له مثيل على المستوى العربي ولا يُبشر بخير، عندما تسعى المنابر الإعلامية والشخصيات التي كنَّا نحسبها مرموقة إلى النّيل من مساعي المقاومة وأعلامها بالإصابة في صميم مبدأ الدفاع عن مُقدراتهم ومُقدساتهم.
وقد خرجت حناجر النبز وأقلام اللمز تبتغي سبيل الهمز وتنشد الوقيعة بين النَّاس وجرهم إلى وهم العامّة بالإفتآت على قناعتهم وإيهامهم بأنَّ المقاومة شأن خاطئ يشوبه الشكوك، وأمر لا يجب أن يحدث؛ لأنه يكلف خسائر في الأرواح والممتلكات في إشارة مُبطنة بأن تتخلى المقاومة عن أهدافها ومساعيها والاستعاضة عن ذلك بالمسكنة واقتطاف ثمار السلام من فوق طاولة المفاوضات المُستديرة وبكل بساطة ويُسر، لأنَّ المحتّل وزبانيته لا يفهمون شيئًا ولم يمتهنوا لعبة المفاوضات لسبعة عقود ماضية، كسبًا للوقت وزيادةً في التمدد، وجلبًا للمستوطنين وإكثارهم، وتدجينهم وإحلالهم محل السكان الأصليين بعد قتلهم وتهجيرهم وطردهم وتضييق سبل العيش على البقّية الباقية منهم.
نُلاحظ أنَّ بعض الدول العربية وشعوبها لا يقومون بفعل أي شيء تجاه ما يحدث في فلسطين، وكأنَّ الأمر لا يعنيهم باستثناء القلة من المتحدثين والذين غالبًا ما يكونون خارج أوطانهم خوفًا على أنفسهم من الأنظمة التي تتبنى الفكر الغربي في عدم إدانة الكيان الصهيوني، والتي تلزم مواطنيها جبرًا بالاكتفاء بالمشاهدة والسكوت، ولو أنَّ الأمر بقي كذلك لقلنا كفى ولا بأس، إلّا أن الحال وصل بهم إلى صلافة المؤاربة، من خلال الحط من مكانة المقاومة وتأصيل خطيئتها في لغو أقوالهم بامتهانها والعود باللائمة عليها في كل ما يحدث اليوم، فلا تلك الدول وجّهت مثقفيها وعلماءها ومحدثيها وإعلامها لقول الحق، ولا هي منعتهم من تلبيس الحقيقة بالباطل، وفي هذه الحالة يظهر جلاء التوجه العام المُعاكس للتيّار.
إنِّه لمن المؤسف جدًا أن نجد صحيفة شهيرة لا ترى الحقيقة وقناةً معروفة مُؤدلَجة أسيرة وعالماً ليس له صديق ومثقّفاً معروفاً يقدح في المألوف وصوتاً رخيماً حديثه عقيماً، وقد انحدروا عند اشتداد الكرب إلى درك الوهاد بعد أن كان يُشار لهم بالبنان في فسحة المهاد، ولكن يبدو أنَّ وراء الأكمة محركًا فعالًا يُغذِّي كل هؤلاء، لتسنّم ذرى الظهور أمام النَّاس وبث مغالطاتهم ومثبطاتهم للأمّة بإحباط معنوياتها وثني عزيمتها وكسر روح المُقاومة المتعاظمة، ولا تتردد تلك الأفواه في سوق الأدلة المجتزأة لإثبات حججها، مع أن الكل تقريبًا بات يلاحظ أنها محاولات يائسة ومنحولات بائسة.
ما قبل الطوفان ليس كما بعده، حين سقطت آخر ورقة زيتون كانت تستر عورة الكيان ومن ناصبه العداء في الظاهر وبادله الحب في الباطن، وتبين للعالم كله ما كانت تخفيه وراءها من طمع مُشرَّب بالكراهية، وقد زالت كل التهويمات عند من كان يساوره شيء من الشك أو اللايقين في فهم اللعبة الصهيونية القذرة والمُراد تعقيدها في المشرق الإسلامي، وتبيّنت له الحقيقة كالشمس في رابعة النهار، بعد أن رأى بعيني رأسه حقد المحتّل المجرم وداعميه من المتلحفين بعباءة الإنسانية وهم يتلذّذون ويستمتعون بقتل الأبرياء، فقط لمجرد القتل ويتشفون فيهم.
وما يثير السخرية أن بعض وسائل الإعلام العربية تشيح بوجهها عمّا يحدث؛ بل إنها تسعى إلى قلب الحقائق ووصم قمم المُقاومة وقادتها بالإجرام والإرهاب، وغيرها من الكلمات التي تتلاعب بوعي المتلقي على المدى الطويل مع الاستمرار وكثرة التكرار، وهو نهجٌ إعلاميٌ أثبت نجاحه منذ إذاعة الحاخامات في ستينيات القرن الماضي، ثم إذاعة الجيش الإسرائيلي وصولًا إلى الأذرعة الشخصية ذات الصلة على منصات التواصل الاجتماعي، كما أثبت هذا التوجه الإعلامي نجاعةً ممتازة في الغرب على المستوى الجماهيري؛، حيث الشعوب الغربية غارقة في أعماق فقاعة عملاقة من الكذب والزيف الذي تفرضه عليها آلة الإعلام ليسهل التحكمّ بهم وتوجيه رأيهم، ولكن واقع الحال ومنذ عام مضى بدأ بالتحول وباتت تلك الشعوب تبحث وتكتشف ما يدور بعيدًا عنها بعد أن أيقظتهم الاستباحة الهستيرية لكل الحرمات.
بالطبع إن العذر بالجهل غير مقبول ومن حاول الفهم وكسب العلم بعد ذلك فقد نلتمس له العذر لعلمنا بجهله، ولكن كيف لنا أن نعذر من يفهم ويعلم أننا به نعلم وهو يُمارس دور الجاهل حسن النوايا ويجذب الناس معه إلى الجهالة؟! إننا كعرب ومسلمين ومنذ مائة عام نفهم ونعي حقيقة الاحتلال الإنجليزي الإسرائيلي الأمريكي للأراضي الفلسطينية من اليوم الأول، وهو ما لم تكن الشعوب الغربية المضللة تفهمه وتعيه، إلّا قريبًا وقد نعذرهم، ولكن كيف لنا التماس العذر للصحف والقنوات والشخصيات العربية عندما تدلّس على عامّة الناس عقيدة المقاومة؟!
عندما ينبذ الإعلام رسالته الأخلاقية ونزاهة مهنيته في نقل الخبر، فإن ذلك دليلٌ على التوجّه العام المفروض عليه مرغمًا وليس راغبًا، لا سيّما أن إمكانية اتخاذ الآلية الدبلوماسية في صياغة الخبر متاحةً وممكنة وإن كان معارضًا؛ فالعربية واسعة كما يقال، وهو حفظ ماء الوجه على أقل تقدير وادّعى الحياد من حيث التعبير، ولكن عندما يُجاهر ببّث الكراهية ضد من أجمعت الأمّة العربية والإسلامية على محبته، فإنِّها سقطة إعلامية من حالق في وادٍ سحيقٍ، ولا تُغتفر، ولن تنفع بعدها تمائم التحقيقات واستحضار المُبرِّرات، وإنَّ من الحكمة التنبؤ بالنتيجة قبل الإقدام على الفعل وبردود الأفعال قبل الافتعال، ومن يتجاهل فَهْمَ شأن عامة النَّاس واحترام مشاعرهم، فلا عذر له، وإن عداءهم لشديد، وعليه تحمُّل نتيجة قراره.