ماجد المرهون
مُنطلق فردي نتيجة أمرٍ ما غير مقبول يعود على صاحبه بردة فعلٍ غاضبة لتنافيها مع قناعتهِ أو مُعتقده وقد يكون على صوابٍ وهو مُتيقِّن أو على خطأ وهو لا يعلم، كما تتفق على العصبيةِ مجموعة صغيرة أو كبيرة من النَّاس شأنها شأن الفردي فيما يُعرف "بالوعي العصبي"، وكل منهما يُحاول الاستنصاف لنفسه بإثبات رأيه بالبيِّنةِ أو تأكيد حقه بالبرهنة، وإلى هنا لا ضير في الأمر ما لم تكُن تلكم المساعي ذات نتيجة تنعكس ظُلمًا أو بغيًا على الطرف الآخر، وبلا شك أن العصبية لن تتولَّد دون سببِّيةٍ فهذا السبب والمسبب هو الطرف الآخر الواقف محل الندية والمراد هزيمته ودحرِه، وما يعظِّم من شأن هذه المُنافسة أن لكل طرفٍ عصبيته الخاصة التي يُنافح في الذود عنها بدعمه المشفوع بالدليل والبُرهان.
نَشهد الآن نُشوب نزاع بحسب ما ورد في المُقدمة السالفة، ويُحاول كُلٌ من الطرفين اقتناص فُرص دمغ الآخر بسَوْق الحُجج ودحضها، وقد تستمر مساعي السبق هذه لفترة طويلةٍ وأزمانٍ مُتطاولة وتنتقل راياتها بين الأجيال بالتوارث وإن ميراث الخلاف ذميم، وبينما تتسِع الهُوة بينهما تسوق الأيام أحداثًا إضافيةٍ وتركمها لتصب في مصلحةٍ هذا وتَنقض حجة ذاك والعكس يحدث مع عجلةٍ يغذي التنافر دورانها في مضمارٍ لا نهاية له، وباتت فتوق الخصام بينهما بلا إمكانية رتق، وإن نسل الجفاء عقيم.
من الطبيعي جدًا في مرحلةٍ من المراحل أن يكتشف طرف ثالث أكثر مَكرًا وخبثًا حمق الطرفين المُتنازعين بعد أن أعيا بهُما غبائِهما تحكيم العقل والمنطق، فيتسلل من إحدى الثغرات ليقتسم لنفسه منفعته مُستغًلا تضارب المصالح؛ إذ ستتركز خُطته على إبقاء محل النزاع قائمًا ودائمًا، بل سيعمد إلى تنصيب نفسه في حالةٍ مُتفاعلةٍ لتأجيج الأحداث، وسيستثمر كُل شيءٍ من حولهِ لدرء وصولهما إلى تفاهمات من شأنها تجسير الخصومة، وسوف يُطور الدخيل الثالث من خُططه وأساليبه على الدوام لاستحداث بؤر خِلاف جديدةٍ أكثر تعقيدًا وعمقًا كُلما تقادمت الخلافات السابقة واضمحل بعضها، ويستمر الطرفان المُتناقضان في غيِّهما ما شاء لهما الثالث الماكر ذلك وقد باء مُتحكمًا بفتيل الإشعال كيفما وأينما شاء ولأتفه الأسباب، ويقبع ما بين الأطراف الثلاثة طرفٌ رابع هو من يتحمل العواقب ومن يقع عليه ظلم نتائج الخلافات وقد لا ينجو أحيانًا من الجور والبُهتان، وما يُثير الغرابة أن الطرف الرابع هذا هو أهم الأطراف ولكن لا يُلقى له بالًا ولا يُعيره أحد اهتمامًا.
الحق لا يَحتازهُ شخص مُحدد أو طائفة معينة، وغالبًا ما يكون ظاهرًا واضحًا لا مِراء فيه، ولكن العصبية هي التي تُشكِل على الإنسان استساغته، فتَعمى العين عن رؤيته والبصيرة عن إدراكه فيستحسِن خطأهُ ويدعم موقفه بالمُسوغات والمُبررات ويستقبِّح حق الآخر، ويسلِك فيه المُضعِّفات والركاكات، وما ذلك كُله إلا بهدف الظفر بالتفوق والسبق لتقلد الإنتصار للنفس لاغير، وهذا يقودنا إلى المستوى الرفيع للإدراك الحقيقي وتنزيه النفس عن كُل الميول العصبية سواءً كانت طائفية أو عقدية أو وطنية والتي من شأنها التأثير على الحكم النهائي وتقبله، وإن ذلك لهو السمو الإنساني الأعظم حيث يفتح الآفاق الواسعة للنزاهة والتواضع والتفاهم، ولأن يكون المرء شعرةً مغمورةً في ذيل الحق أحب من أن يكون قرنًا ظاهرًا في رأس الباطل.
لا يُمكن للحق وقول الحق أن يتوقف على من ينطق به بحيث يُنظر في الأمر فيما إذا كان القائل يُعتبر منا ومحسوبٌ علينا فقد صدق، وإن لم يكن كذلك فإن قوله يتطلب البحث والتمحيص وربما التجريح الذي قد يصل في نهاية الأمر إلى إبطاله ثم نُكرانه فقط لأن القائل ليس منا ولا من فريقنا، ومع هذا الغلو سيُدرج القول أو الرأي بين ترجيحه للحق وإن كان باطلًا أو للباطل وإن كان حقًا، وها نحن الآن نجد وفي هذه الأثناء طرفي نِزاع وخلافٍ يقرِضان اديم بعضهما ويطعن أحدهما الآخر وكلٌ بالتشدد في رأيه مُعاند وفي التمسك بموقفه مكابر، وتسوقه قناعته بصدقية مايعتقد وثقة مايتبنى، في وقت نحن أحوج مانكون فيه للإلتقاء في مواضع التفاهم، ولكننا نقدم للطرف الثالث الكائد رضًا تامًا وربما ندفعه دفعًا للضحك على سوء مهيعنا، وهو لا ينفك في تغوير حفر الخصام ليبقى الشقاق على أشُده وتحييد طرق الوئام في مسارين لا يلتقيان وتضيع بينهما حقوق الطرف الرابع وهو عَصب قضية الخلاف.
بقي أن تعرف عزيزي القارئ الأطراف المقصودة أعلاه، فالأول والثاني هما المُتفق والمُعارض للتدخل الإيراني في القضية الفلسطينية والثالث هو الكيان المحتل والرابع هو الشعب الفلسطيني والمُقاومة.