وسع عقلك.. العفو

 

سلطان بن محمد القاسمي

هل شعرت يومًا أن قلبك مُثقل؟ ليس بالتعب الجسدي الذي يُمكن التخلص منه بقليل من الراحة، بل بذلك الثقل الذي يسكن أعماق روحك، ثقل الضغائن والغضب الذي لا يُرى، لكنه يستنزف طاقتك، ويُكدر صفوك. من هنا، سنتحدث اليوم عن هذا الثقل، وما سأشاركه معك هو:  فن العفو. كيف تستطيع أن تترك الضغائن خلفك، وتفتح لنفسك أبوابًا جديدة نحو السلام الداخلي؟ وكيف تصل إلى تلك المرحلة التي تشعر فيها بأنك سيد نفسك، وملك قرارك، متحررًا من أغلال الماضي؟

عندما نتأمل في هذه الفضيلة، نجد أن العفو ليس مجرد تصرف نبيل تجاه الآخرين، بل هو عملية شفاء للنفس وتطهير للروح. ولذلك، فإنَّ العفو هو تحرر من الأعباء التي نضعها على كاهلنا. كما يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم":فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ"الحجر: 85. تأمل معي في هذه الكلمات، "الصفح الجميل"، ذلك الصفح الذي لا انتظار فيه لمُقابل، لا ضغينة ولا ألم. بالتالي، هو عفو ينبع من قلب صافٍ يُريد أن ينعم بالسلام الداخلي، ويُحرر نفسه قبل كل شيء.

وهنا تبدأ الحكاية. نحن بحاجة للعفو، ليس فقط للإحسان إلى الآخرين، بل للإحسان إلى أنفسنا أولاً. إذا تأملنا في حياتنا اليومية، سنجد أننا نعيش حياة مليئة بالسكينة والسلام فقط عندما نُحرر أنفسنا من أثقال الضغائن القديمة وأوجاع الماضي.  ما الجدوى من تكرار الذكريات المؤلمة التي تجعلنا سجناء للماضي؟ العفو يُحررنا، ويفتح لنا أفقًا جديدًا لنعيش الحياة بنقاء روحي، حيث لا نعود أسرى للماضي.

إضافةً إلى ذلك، العفو لا يعني نسيان ما حدث أو تجاهل الألم الذي شعرنا به. بل يعني تجاوز تلك المشاعر السلبية التي تربطنا بالأحداث المؤلمة. نأخذ العبرة ونتجاوز الألم. انظر إلى موقف النبي محمد صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة. كان في موضع قوة، وكان بإمكانه الانتقام، لكنه قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". هذا القرار لم يكن فقط عفوًا عن الناس، بل كان عفوًا عن أي ضغينة تُثقل قلبه. بالتالي، هو مثال على القوة الحقيقية، تلك التي تجعل من العفو طريقًا لتحويل الأعداء إلى أصدقاء، وتحقيق السلام الداخلي.

إذاً، كيف يمكن للعفو أن يكون قوة؟ ببساطة، عندما تعفو، أنت تتحرر من العبء الذي يُثقل روحك. تتحرر أيضًا من المشاعر السلبية التي تأكل من طاقتك الداخلية. بل وأكثر من ذلك، فقد أثبتت الدراسات النفسية الحديثة أن العفو له فوائد جسدية ونفسية ملموسة. بمعنى آخر، العفو يساعد على تخفيف التوتر والقلق، ويعيد للنفس الراحة والصفاء. فأنت حين تعفو، لا تهدي الآخرين فقط، بل تهدي نفسك صحة نفسية وجسدية لا تقدر بثمن.

وبالإضافة إلى ذلك، إذا تأملنا في حياة الأنبياء والصالحين، سنجد أن العفو كان دائمًا حاضرًا في تعاملاتهم. خذ مثلاً قصة النبي يوسف عليه السلام. عندما عفا عن إخوته الذين ألقوه في البئر، لم يكن ذلك نسيانًا للألم، بل كان اختيارًا أكبر وأعمق للسلام الداخلي، رؤية واضحة للمستقبل، بعيدة كل البعد عن أسر الماضي وأوجاعه. هكذا، يوسف عليه السلام علّمنا درسًا خالدًا في أن العفو هو الطريق الوحيد للتحرر الحقيقي.

وفي الحديث الشريف: "من كظم غيظاً وهو قادرٌ على أن يُنفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يُخيِّره في أي الحور شاء". هذا الحديث يذكرنا بأن كل مرة نختار فيها كتمان الغضب والعفو، نرتقي بأنفسنا خطوة نحو الرضا الداخلي، خطوة نحو السمو الروحي الذي يجعلنا أكبر من الضغائن وأسمى من الأحقاد.

وعلاوة على ذلك، العفو هو الأساس الذي تقوم عليه العلاقات الإنسانية القوية. تخيل كيف يمكن أن تستمر العلاقات العائلية أو الصداقات دون عفو! كل علاقة قد تمر بمراحل من التوتر والخلاف، لكن ما يميز العلاقات المتينة هو القدرة على التجاوز والعفو. ولنا في قصة الصحابي الجليل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مثال رائع. عندما عفا عن مسطح بن أثاثة في حادثة الإفك، رغم الجرح العميق الذي خلفته الحادثة في قلبه، اختار أبوبكر أن يغلب العفو على الألم، ليضرب لنا مثالًا خالدًا في كيفية التعامل مع الأذى بمستوى من السمو الأخلاقي.

وفي جانب آخر، لا يمكننا أن ننسى أهمية العفو عن الذات. كم مرة قسونا على أنفسنا، حاكمناها على أخطاء مضت، قرارات اتخذناها في لحظات ضعف؟ إذا كان الله، في عظمته ورحمته، يغفر لعباده ويمنحهم فرصة للتوبة والتجديد، فلماذا نبقى نحن أسرى لذواتنا وأخطائنا؟ مسامحة الذات هي أولى خطوات الحرية. إنها تلك اللحظة التي نقرر فيها أن نمنح أنفسنا فرصة ثانية، نغفر لأنفسنا ونبدأ من جديد، متحررين من كل قيود الندم.

لكن العفو لا يقف عند حدود الفرد، بل هو ثقافة نحتاج لتعزيزها في مجتمعاتنا. المجتمع الذي يتبنى التسامح والعفو بين أفراده هو مجتمع قوي ومستقر. العفو لا يعني ضعفًا، ولا تنازلًا عن الحقوق، بل هو قرار واعٍ بجعل الإنسانية والمحبة أعلى من أي خلاف. وبالتالي، هذه الرسالة يجب أن ننقلها للأجيال القادمة: العفو قوة، والتسامح هو الطريق الحقيقي للنجاح والعيش بسلام.

وفي النهاية، العفو ليس فقط وسيلة لتحقيق السلام الداخلي، بل هو قوة تمنحنا الحرية من قيود الماضي. هو تلك اللحظة التي نختار فيها أن نعيش بقلوب طاهرة، خالية من الأعباء. ما أجمل أن تعيش حياتك بلا ضغائن، متحررًا من كل ما يُعكر صفاء قلبك. فكلما اخترت العفو، صرت سيد نفسك، حرًا من قيود الماضي، ومستعدًا لتجارب جديدة بروح نقية ونفس متفائلة.