د. محمد بن عوض المشيخي **
بعد هزائم ونكسات عديدة للأنظمة الرسمية العربية عبر عدة عقود، وذلك بعد انكسار جيوشها مُجتمعة في مواجهة العصابات الصهيونية التي زرعها المستعمر في فلسطين قلب الوطن العربي، ومن بين الركام والتدمير الذي خلفه الجيش الإسرائيلي في لبنان؛ ووسط الضبابية والظلام الدامس في الساحة العربية، يظهر في الأفق نجم حزب الله اللبناني عام 1982 كتنظيم مُقاوِم والذي أبهر العالم بقوته وإرادته الأسطورية التي لا تنكسر في وجه القوى العظمى الحامية لإسرائيل؛ إذ كانت البداية بقتل أكثر من 300 من المارينز في بيروت من خلال تفجير المباني والثكنات العسكرية الأمريكية والفرنسية.
ثم توالت بعد ذلك نجاحات الحزب في جنوب لبنان واستطاع أن يهزم إسرائيل في كل المواجهات التي تمت بين الطرفين، ولكن الذي حدث في شهر الماضي من اختراقات إسرائيلية في هيكلية الحزب وقيادته العليا قد طرح علامات استفهام صادمة للجميع.
وبالفعل كان يوم 28 سبتمبر الماضي يوماً أسود وحزيناً لكل المساندين لغزة وفلسطين من أبناء الأمة الإسلامية، لم لا، فقد فقدت المقاومة الإسلامية في لبنان كوكبة من القادة البواسل الذين كان لهم رصيد وبصمة واضحة المعالم في الوقوف مع الشعب الفلسطيني ومساندته في أحلك الظروف وأصعبها على الإطلاق في الوقت الذي تخلت فيها الحكومات العربية عن واجبها تجاه أطفال ونساء غزة بدون خجل، وأدارت تلك الأنظمة ظهرها للإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، وفي مقدمة هذه القافلة هؤلاء المجاهدين سماحة الشيخ حسن نصر الله.
لقد وقف العالم مذهولًا من تمكن الجيش الإسرائيلي طوال عدة أسابيع متتالية من اختراق منظومة القيادة والاتصالات في حزب الله؛ حيث استطاع الصهاينة اغتيال الصف الأول من القادة الميدانيين لهذا الحزب الذي يوصف بأنه واحدٌ من أفضل التنظيمات في العالم من حيث الانضباط والتخطيط السليم فضلاً عن الإجراءات الاحترازية المتقدمة. ولكن الخطأ القاتل هو الاستمرارية في اتخاذ الضاحية الجنوبية مكاناً للاجتماعات على الرغم من خطورة ذلك المكان ووجود جواسيس ينقلون للكيان الصهيوني البغيض تحركات قادة الحزب أولاً بأول بدون تدخل أو قرار حاسم من الجهاز الأمني المكلف بمكافحة التجسس في حزب الله. كما إن الخطأ القاتل الثاني يتمثل في ردود الحزب على الهجمات التي استهدفت نائب رئيس حركة حماس المجاهد صالح العروري، وكذلك الاغتيالات التي طالت كل من فؤاد شكر وإبراهيم عقيل؛ إذ كانت تلك الردود الانتقامية هزيلة ودون المستوى، مما شجع إسرائيل على استهداف القيادة العُليا بوزن سماحة الشيخ حسن نصر الله الأمين العام للحزب.
أما الخطأ القاتل الثالث فيتمثل في نجاح الموساد في تفخيخ أجهزة النداء المعروفة بـ"البيجر" بهدف استهداف العديد من القادة وأفراد الحزب والأسوأ من ذلك كله فشل منظومة الحزب في عدم التعلم من درس البيجر؛ بل تمت عملية أخرى في اليوم التالي تتمثل في تفخيخ أجهزة الاتصالات اللاسلكية من طراز (آيكوم في 82)، وذلك خلال عملية التصنيع دون أن ينتبه أحدٌ من المسؤولين في الحزب لذلك أو على الأقل سحبها فورا من منظومة الاتصالات في الحزب عشية انفجار أجهزة البيجر. ومن الأخطاء الاستراتيجية للحزب أيضا اصطفاف الحزب مع الحكومة السورية في القتال الدامي ضد المُعارضة السورية التي كانت تطمح إلى إقامة نظام ديمقراطي في البلاد.
لقد كانت طموحات الشعوب العربية منذ البداية أن يتجاوز دور المقاومة الإسلامية في لبنان الإسناد والقيام باستهداف القواعد العسكرية الإسرائيلية بل بالقيام باجتياح المستعمرات القريبة من الحدود على أقل تقدير، ولكن كان هناك تردد وخوف وضغوط من الحكومة اللبنانية وإيران من قيام إسرائيل بالانتقام واستهداف المدن اللبنانية وخاصة العاصمة بيروت ولكن في نهاية المطاف تجاوزت إسرائيل كل الخطوط الحمراء باستهداف الضاحية الجنوبية ومختلف المدن اللبنانية وتدمير المباني على رؤوس المدنيين الأبرياء.
وعلى الرغم من ذلك فقد كان لحزب الله السبق في هزيمة الجيش الإسرائيلي مرتين المرة الأولى في ربيع عام 2000؛ إذ نجح المجاهدون في المقاومة اللبنانية في إجبار الصهاينة على الهروب الجماعي في جنح الظلام، وذلك بعد مسيرة جهادية استمرت سنوات طويلة. وقد كنت من ضمن الإعلاميين الذين زاروا بوابة فاطمة المطلة على الجليل في شمال فلسطين المحتلة، حيث شاهدنا على الطبيعة الجنود المدحورين خلف الأسلاك وهم يهتزون من الخوف في الأبراج، بينما أبطال المقاومة الإسلامية المنتصرون يضحكون ويمرحون في الطرف اللبناني ويرتدون الزي الرياضي وليس العسكري.
لقد كانت رحلتي من بيروت عبر صيدا ومرورا بالجبال والأودية وصولا في البداية إلى سجن الخيام الذي تحول إلى متحف يُحاكي مرحلة الجهاد ومعاناة السجناء والتعذيب الذي استمر لسنوات طويلة، كما أخذنا إيجازا عن العمليات الاستشهادية لرجال المقاومة في قواعد وثكنات المحتلين الصهاينة في جنوب لبنان خلال الاحتلال للأراضي اللبنانية؛ مما عجل بالانسحاب الذي تكلل بالنصر الكبير للعرب لأول مرة في تاريخهم مع الجيش الإسرائيلي، بينما تحقق الانتصار الثاني لحزب الله في يونيو 2006، إذ تمكن الحزب من هزيمة الجيش الإسرائيلي وأسر جنوده وإجباره على الانسحاب إلى الحدود الدولية للمرة الثانية. يبدو لي أنَّه إذا حاول الجيش الإسرائيلي الإسرائيلي اجتياح جنوب لبنان والذي يُهدد منذ قررت المقاومة اللبنانية مساندة غزة في أكتوبر 2023 وحتى الآن، فسوف يُحقق حزب الله الانتصار الثالث بعون الله. فالذي يميز المقاتلين في حزب الله هو حبهم للشهادة في سبيل الله مثل حب الصهاينة للحياة.
يجب تذكير الجميع بأنَّ الشعب اللبناني كان السبَّاق في فتح جبهة جنوب لبنان بالمشاركة مع فصائل منظمة التحرير الفلسطينية التي كان يقودها المناضل ياسر عرفات رئيس المنظمة في ذلك الوقت، فقد كان الإمام موسى الصدر أحد الرموز الإسلامية الشيعية قد دعا إلى الجهاد لتحرير القدس في مطلع سبعينيات القرن الماضي وذلك قبل ظهور حزب الله على الساحة اللبنانية وتصدره للمشهد السياسي والعسكري في المنطقة.
يجب التأكيد أن الانتصار الساحق لحركة حماس في 7 من أكتوبر كان اسثنائياً بكل المقاييس فقد هزَّ أركان الدولة الصهيونية مما ترتب على تلك الصدمة، هجرة عكسية لأكثر من أربعمائة ألف إسرائيلي للخارج وقبل ذلك كله نهاية أسطورة ما يُسمى بالجيش الذي لا يُقهر.
وفي الختام، حزب الله تنظيم عقائدي قائم على أرضية صلبة ومنهجية واضحة المعالم فلا يتأثر بغياب القيادات السياسية ولا حتى الميدانية، فكانت كلمة الشيخ نعيم قاسم الأمين العام الحالي مُعبرة عن مستقبل الحزب في المرحلة القادمة وبالفعل فقد بدأ الحزب يستعيد الروح المعنوية هذه الأيام من خلال استهداف تل أبيب بالصواريخ البالسيتة التي جعلت أكثر من مليون إسرائيلي يلزم الملاجئ تحت الأرض وكذلك نجاح الحزب في صد التوغل الإسرائيلي وقتل وجرح عدد كبير من جنود الاحتلال، وذلك خلال كتابة هذه السطور.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري