تحقيق: ناصر أبوعون
يقول الشَّيخُ القاضِي الأجَلّ عِيَسى بِنْ صَالِحٍ بِنْ عَامِرٍ الطَّائِيُّ: [(ثَمَّ مَلَكَهَا بَعْدَهُ السَّيّد فَضْلُ بْنُ عَلَوِيّ مَوْلَى الدُّوَيْلَةِ فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ ظَفَار فَحَصَرُوهُ بِقَصْرِهِ؛ فَصَالَحَهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ وَالاِنْجِلَاءِ مِنْهَا بَتَاتًا، فَخَرَجَ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ، وَلَحِقَ بِالْقُسْطَنْطِيْنِيَّةِ، فَأَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ عَبْدُ الْحَمِيْدِ، ثُمَّ تَوَجَّهَ الشَّيْخُ عَوضُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الشَّنْفَرِيُّ الْمُلَقَّبُ بِـ(الْمَوْتِ) إِلَى السُّلْطَانِ الْهُمَامِ تُرْكِي بِنِ سَعَيِدٍ سُلْطَانِ عُمَانَ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَبْعَثَ وَالِيًا مِنْ قِبَلِهِ إِلَى ظَفَار، وأَنْ تَكُوْنَ ظَفارِ مُلْحَقَةً بِأَمْلَاكِهِ)].
*****
قبيلة السيد فضل بن علوي
- يقول الشَّيخُ عِيَسى الطَّائِيُّ: [(ثَمَّ مَلَكَهَا بَعْدَهُ السَّيّد فَضْلُ بْنُ عَلَوِيّ مَوْلَى الدُّوَيْلَةِ)]
تؤكد المصادر الموثوقة أنّ "آل عَلويّ) (باعلويّ) فرعٌ من العلويين الحضارم، يُنسبون إلى (علويّ بن عُبيد الله بن أحمد المهاجر عيسى المرفوع نسبُه إلى الإمام الحسين السِّبط بن عليّ بن أبي طالب، وهم بيوت عديدة، وكان لهم إسهامهم الفعّال في نشر الدعوة الإسلاميّة في (آسيا وأفريقيا)، ومنهم (آل علويّ) زُعماء في سلطنة عُمان"(01)، وينقسم (آل باعلوي) إلى أفخاذ وبطون، منهم (آل الشيخ أبو بكر)، و(آل العطاس)،و(آل عيدروس)، و(آل حبشيّ)، و(آل شهاب)، و(آل الجفري)، و(بلفقيه)، و(الكاف)، و(السقاف). وفي أفخاذ (آل باعلويّ) رؤساءٌ لهم نفوذ روحيّ، وسلطة نافذة بالصلاح والتقوى والانتساب إلى آل البيت الأطهار القُرشيين كآل الشيخ أبي بكر والعطاس والعيدروس والحبشيّ"(02)
وأمّا قول الشيخ عيسى الطائي: [(مَوْلَى الدُّوَيْلَةِ)]، فهو نسبةً إلى "(آل مَوْلَى الدِوَيْلَة)؛ وهم ذُرية السيد محمد بن علي مولى الدويلة بن عليّ بن عَلَويّ بن الفقيه المقدم، من العلويين الحضارم، وهم (بيت زَيْن)، و(بيت قطيان)، و(بيت حسين)، الساكنون في مناطق (آل تميم) بـ(وادي الْمَسِيْلَة)، و(غِيل بن يُمَين). و(الشيخ الدّويل)؛ اسم منطقة في أسفل (وادي لَحْج) بالقرب من (كود الْمَسِيْلَة) الواقعة في خط طريق المسافر من (لَحْج) إلى (عدن)، وبها عدد من البساتين. و(الدِوَيْلَة) قرية صارت تعُرَف اليوم باسم (فُغْمَة)، وهي من مركز (السَّوم) في مديرية (سيئون) بوادي حضرموت، وقِيل: إنها كانت قريتين؛ إحداهما للسيد محمد بن علي مولى الدويلة، وفيها له مسجد، والقرية الأخرى لابنه السقّاف وفيها له مسجد، وكان يُقَال: للأولى: (الدّويلة)"(03)
آل الدويلة يوحد الهندوس والمسلمين
تواصلت الهجرات الدعوية من البلاد الحضرمية باليمن إلى بلاد الهند، كما هو الحال في هجرة الأشراف آل البيت إلى بلدان أخرى، و"في مقدمة هؤلاء السادات من آل البيت، (السادة الباعلوية)، ومن أهم رجالاتهم (السيد الشريف عَلَويّ) المولود سنة 1166هـ، وقد حفظ القرآن الكريم منذ نعومة أظافره وتلقى العلوم الدينية عن شيوخه في اليمن، وعن بعض أعمامه الذين هاجروا إلى البلاد الهندية. وقد نزل بشواطئ "كيرلا" في الليلة التاسعة من شهر رمضان سنة 1183هـ، ثم ذهب إلى إحدى قرى "مَليبار"، حيث كان يقيم عمه حسن الجفري، الذي زوجه ابنته الوحيدة. وعُرِفَ (السَّيد عَلَويّ) بتزعم مقاومة البريطانيين المحتلين لأرض الهند، حيث سعى إلى توحيد صفوف المسلمين ونشر فكرة الاتحاد بين المسلمين وبين الهندوس،وذلك لمحاربة الاستعمار البريطانيّ في صف واحد رغم اختلاف دياناتهم وأفكارهم، ثم ترك (الشريف عَلَويّ) من بعده ولده النابغة [(السَّيّد فَضْلُ بْنُ عَلَوِيّ)]، وقد اختاره الناس لكرسي الزعامة بعد أبيه"(04)
السيد فضل علويّ.. النشأة والمَنْفَى
-[(السَّيّد فَضْلُ بْنُ عَلَوِيّ)]، "هو السيد فضل بن علوي بن محمد بن سهل مولى خيلة، مولى الدّويلة، باعلويّ الحُسينيّ، الحضرميّ الأصل والأرومة، (المليباريّ) المولد والنشأة، وُلِدَ في مدينة (كاليكوت)، جنوب الهند سنة 1240هـ، وبها نشأ وتعلّم، وتربّى في بيت أبيه (علوي مولى الدّويلة، المتوفي سنة1260هـ)، الشهير عند أهالي مليبار/كيرلا، بـ(السيد علوي المنفرميّ) نسبةً إلى بلدة (منفرم=ممبرم)، التي عاش وتوفي فيها، ثم أرسله أبوه إلى حضرموت موطن قبيلته لطلب العلم، فتلقّاه السيد الإمام العلُامة عبد الله بن حسين بن طاهر( المتوفي سنة 1272هـ) فلازمه مُدّةً، وزار أعيان (آل باعلويّ) في اليمن إبّان ذلك العصر، ثم عاد إلى الهند، وشارك في حركة المقاومة ضد الاستعمار البريطانيّ، وذراعه الاقتصاديّ المتمثل بشركة الهند الشرقية التي سيطرت على شبه القارة الهندية، فتمّ نفيه من (مليبار) إلى مكة المكرّمة بعد وفاة أبيه سنة (1268هـ). فلمّا وصل خبره إلى حكومة الباب العالي، طلبه السلطان عبد المجيد خان الأول بن محمود خان الثانى بن عبد الحميد خان الأول (1823م- 1861م)، فقدم عليه في اسطنبول، وكلّفه بإمارة (ظفار) جنوب عُمان، فسار إليها، ولكن لم يلبث بها كثيرًا، ثم عاد إلى مكة"(05)
السيد فضل مُثَقَفٌ عُضوِيّ
تطابق مصطلح (المثقف العضويّ) للفيلسوف الإيطاليّ (أنطونيو غرامشي) مع شخصية (السيد فضل بن علويّ)؛ حيث امتلك ناصية المعرفة، وسعى إلى تجديد الفكر الدينيّ، واستنهاض الأمة لمواجهة استحقاقاتها، وتوظيف مقدراتها، ومواجهة الأطماع الخارجية التي تترى عليها من كل حدب وصوب؛ إلا أنّ تاريخه النضاليّ ضد الاحتلال البريطانيّ في الهند كان العقبة الكؤود التي نسج عليها الإنجليز مؤامراتهم ضده لإسقاط إمارته في ظَفار، وتخريب مشروعه النهضويّ الاقتصادي. وسيعثر القاريء النابه في تراثه الفكريّ الذي خلّفه لنا مزيجا من هذا النضال الذي جمع فيه بين (البندقية والقلم)؛ فقد "رصد الباحثون في سيرته الذاتية أكثر من اثني عشر كتابا؛ نذكر منها:(بوارق الفطانة لتقوية البطانة)، و(أساس الإسلام في بيان الأحكام)، و(حلل الإحسان في تزيين الإنسان)، و(عدة الأمراء والحكام لإهانة الكفرة وعبدة الأصنام)، و(إسعاف الشفيق في بيع الرقيق)، و(رسالة المسلم العابر لإدراك الغابر)، و(الطريقة الحنيفية)، و(تحذير الأخيار من ركوب العار والنار)، و(رسالة في التصوف)، و(عقد الفرائض في فتاوى العلماء)، و(الفيوضات الإلهية)، و(إيضاح الأسرار العُلْويّة ومنهاج السادة العَلَويّة)"(06)
رحلة السيد فضل بن علوي إلى ظفار؟
لمّا توفي والده (السيد علويّ) في مليبار، رفع الناس ابنه [(السَّيّد فَضْلُ بْنُ عَلَوِيّ)]، إلى كرسيّ الزعامة خلفًا لأبيه، "فخاف البريطانيون من هذا الولد النابغة والمحبوب من عامة الناس وسرعة انتشار سيرته العطرة بين المسلمين في الهند وبلاد العرب، فأعدوا مكيدة لإخراجه من شبه القارة الهندية، فقدّموا له مقترحا بتأمين سفره على متن مجموعة من السفن الشراعية إلى بلاد الحجاز؛ ﻷداء فريضة الحج، بصحبة عائلته وكبار مريديه الذين بلغ عددهم حوالي اثنين وخمسين فردًا، فخرجوا جميعا من البلاد الهندية عبر المراكب الشراعية إلى بيت الله الحرام"(07)، و"هناك التقى وفدًا من القبائل التي كانت تسكن (جبل قرا) في ظَفار، فأعجبهم خلقه وحديثه، فاختاروه أميرا عليهم، وعقدوا له البيعة على ظَفار في 16 من ذي الحجة سنة 1288هـ - 27 من فبراير 1872 في مكة المكرمة، وقام الشيخ عوض بن عبد الله الشنفريّ، الملقب بـ(عوض الموت)، بتوثيق عقد البيعة له بالإمارة(08). ولكن لمَّا أتمَّ مناسك الحجّ، وهَمَّ بالرحيل إلى (مليبار)، لم تأذن له الحكومة البريطانية بالعودة مرة أخرى إلى الهند، وبقي منفيًا حبيسا في البلاد العربية، ثم وصل إلى البلاد المصرية، وأخيرا كان مستشارا للخلافة العثمانية(09)؛ متعللين بدوره الفاعل "في ثورة طائفة (المبلة) ضد الاحتلال البريطانيّ للهند سنة 1852م، وقد اكتسب السيد فضل شهرة بين الناس لتقواه وصلاحه، وفي سنة 1853م وبتحريض من البريطانيين صدر أمرٌ تركيٌّ بمنع (السيد فضل بن علويّ) من مغادرة الأراضي التركيّة، وظل بها حتى سنة 1875م، إلى أن صدر أمرٌ آخر من الباب العالي بتوجّهه إلى (ظَفار)، "ومنذ وصوله إلى ظفار بدأ في بناء شبكة من العلاقات السياسيّة والترتيبات القبليّة، وسرعان ما أصبح سيد الموقف، وصار ابنه قاضيا يفصل في قضايا القبائل، وكانت قاعدة سُلطته في ظفار زهاء (3500) مقاتل من القبائل التي تسكن (جبل قرا)، بالإضافة إلى 2000 من قبيلة بيت آل كثير، وأسس في صلالة قلعة وجعلها عاصمة لإمارته، وفي 1779 نجح السيد فضل بن علويّ في مَدِّ نفوذه غربا حتى شمل جُزءًا من بلاد المهرة"(10)
الوقيعة بين السلطان تركي والسيد فضل
في هذه الأثناء تَحيَّنَ البريطانيون الفرصة للوقيعة، والتقطوا الخيط بوصول "خطاب من السيد فضل بن علوي إلى السلطان تركي سلطان عُمان، يصف فيه السيد فضل نفسه بـ(حاكم ظَفار باسم الباب العالي)، ويضع تحت أنظار السلطان ملاحظة تفيد بأنّ الشيخ عوض بن عبدالله الشنفريّ من رعايا الدولة التركية، فأشار البريطانيون على "السلطان تركي بإبلاغ حكومة الهند – حيث كانت ظفار في هذا الوقت ضمن اختصاص مقيمية عدن- برفع هذا الأمر إلى حكومة صاحبة الجلالة مُوضحةً وجهة نظرها من خطورة وجود (عدو) للحكومة البريطانية في مثل هذا الموقع الاستراتيجي والحيويّ الواقع على طرق التجارة العالمية، ومحذِّرةً من خطورة امتداد النفوذ التركي على الساحل الجنوبي لشبه الجزيرة العربية، وأَتْبَعُوا هذا الاقتراح بالإيعاز إلى السفير البريطاني في القسطنطينية سنة 1876م لتقديم مذكرة احتجاج لدى الحكومة التركية على أعمال السيد فضل بن علويّ، والمطالبة بشجب تصرفاته، ثم أعاد السفير البريطاني الكرّة مرةً أخرى، فقدّم مذكرة احتجاج ثانية ضد السيد فضل بن علوي لدى الحكومة التركية سنة 1877م (11)، وبناءً عليه "اتخذت حكومة الهند قرارا في نهاية 1879م باعتبار إقليم ظَفار العمانيّ ضمن مسؤولية (الوكالة السياسية في مسقط) بدلَ مقيمية عدن، وبذلك عُدِّل النظام القديم الذي كان يقضي بتحويل كل أمور إقليم ظفار إلى المقيمية البريطانية في عَدن"(12)
بريطانيا تُفشل السيد فضل اقتصاديًّا
فمنذ "أوائل عهد السلطان تركي كانت سفن النقل العسكرية العثمانية الآتية من البصرة ترسو في مسقط، وكان العرب ينظرون إلى الأتراك العثمانيين بشيء من الريبة؛ بسبب ضمهم للأحساء، وكانت معاملة السيد تركي لهم بشيء من الخشونة والجفاء. حيث كان يبدو للمتابعين أنّ الأتراك فيما بين 1875م – 1886م يشجعون السيد فضل بن علوي على انتزاع(ظفار) من سلطنة عُمان"(13)، وظل البريطانيون ينظرون للسيد فضل بن علوي نظرة عدو لاصديق، ولم ينسوا مشاركته في المقاومة والثورة ضدهم في (مليبار)، واتهامهم له بالتحريض على جريمة اغتيال الحاكم البريطاني. فلمّا أن وصل إلى ظفار سنة 1876م وأصبح سيّد المسرح السياسي، اقترح على شركة الهند الشرقية أن تنقل بضائع ظفار بما يساوي 200 دولار لكل سفينة، كما كان يأمل في زيادة الصادرات من المطاط المُستخرج من الأشجار المنتشرة في براري الأراضي الداخلية من (ظَفَار) - أو جلبه من أفريقيا وإعادة تصنيعه في ظفار- وفي هذه الأثناء أرسل مبعوثا إلى الهند لجلب خبراء لهم دراية بإنتاجه"(14)؛ لكن البريطانيين أعاقوا تحقيق هذا الهدف خوفا من تنامي نفوذ السيد فضل بن علوي، واتساع قاعدته الاقتصادية، علاوة على علاقته الوطيدة بالخلافة العثمانيّة التي لاتعترف بأذرع بريطانيا في جنوب شبه الجزيرة"(15)، وقد كانوا يرون وجود السيد فضل بن علوي في ظفار مدعوما بنهضة اقتصادية "قد يدفعه إلى التدخل في الشؤون السياسية للهند نكايةً في بريطانيا"(16)
بريطانيا تشعل الثورة ضد السيد فضل
في العام 1878م أصاب ظفار قحط شديد، وارتفعت أسعار الغلة والحبوب، ونفقت الكثير من الماشية في ظفار، ولم تعد القبائل قادرة على الوفاء بضريبة الـ 5% التي فرضها السيد فضل بن علويّ على الواردات والصادرات، فضلا عن حيلولة البريطانيين لمنع الإمدادات الاقتصادية التي طلبها السيد فضل من (اليمن)، و(جدّة)، مضافًا إليها النفث في نير الصراعات بين القبائل، والعمل الدؤوب في الخفاء وإفشال مساعيه الإصلاحية في لمّ شمل زعماء القبائل الظفارية، فخرج "عائدا إلى القسطنطينية في مايو 1879م، وعرض على السلطان العثماني تزويده بباخرتين و500 جندي لبسط سلطته على ظفار وحضرموت"(17)
عودة ظفار تحت حكم السيد تركي
وفي أثناء تواجد السيد فضل في القسطنطينية لطلب المدد العسكريّ من السلطان العثماني لإخماد الثورة المشتعلة ضده في ظفار "انقسم الظفاريون إلى ثلاثة أحزاب: حزب بزعامة (الشيخ عوض بن عبد الله الشنفري) وكان يطالب بإعلان سلطان عُمان سيطرته على ظفار، والحزب الثاني يتزعمه (عودة بن عزان) ويود إعادة السيد فضل إلى سُدّة الحكم. وحزب ثالث – ولعله أقواها جميعًا- ويضم المطالبين باستقلال ظفار. وعقب طرد السيد فضل من ظفار بادر الشيخ الشيخ عوض الشنفري بدور قيادي وزيارة مسقط وطالب السلطان تركي بن سعيد بمدّ سلطانه ليشمل الركن الثاني من جزيرة العرب"(18)، وسرعان ما توجّه وفد من زعماء ظفار إلى مسقط برئاسة الشيخ عوض بن عبد الله الشنفريّ وعرضوا على السلطان تركي آل سعيد بسط نفوذه على ظفار. وفي غضون ذلك كان السيد فاضل قادما على سفينة تركية محمّلة بالجنود ومسلحة ببنادق (مارتيني – هنري) من قِبَل أمير جدة، فتمّ إبلاغه أنّ ظفار عادت تحت حكم سلطان عُمان، فقفل راجعا إلى القسطنطينية"(19)
نصيحة بريطانية أطاحت بالسيد فضل
- يقول الشَّيخُ عِيَسى الطَّائِيُّ: [(فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ ظَفَار فَحَصَرُوهُ بِقَصْرِهِ؛ فَصَالَحَهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ وَالاِنْجِلَاءِ مِنْهَا بَتَاتًا، فَخَرَجَ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ، وَلَحِقَ بِالْقُسْطَنْطِيْنِيَّةِ، فَأَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ عَبْدُ الْحَمِيْدِ)]
لقد ظل البريطانيون يحيكون المؤامرات، ضد السيد فضل بن علوي، ويسدون كل طريق أمام مشاريعه الاقتصادية لاستنهاض (ظفار) طوال مدة حكمه، حتى المرة الوحيدة التي قدّموا له العون كانت هي المسمار الأخير في نعش بقائه في ظفار؛ بل كانت الشرارة التي ألهبت نيران الثورة حيث عرضوا عليه التدخل في قمع المظاهرات ضده بالقوة المسلحة، فقبل ذلك ووقع في حبائلهم. يقول صاحب كتاب (إدام القوت): "فلمّا ثارت عليه القبائل، عاونه الإنجليز على ردعهم"(20)، ثم تعلّلوا بأن دوافع الثورة كانت "بسبب فرضه الضرائب، وعدم قدرته على التوفيق بين القبائل فعمّت الثورة بين الناس وأرغمته على الفرار من البلاد"(21).
- يقول الشيخ عيسى الطائي: [(فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ ظَفَار فَحَصَرُوهُ بِقَصْرِهِ)]، (فَاجْتَمَعَ عَلَيْهِ) معناه: (اتفقوا على خلعه). و(اجتمع) فعلٌ لازم، و"أصله: (اِجْدَمَعَ) ودخلته (الدال) بدل تاء (مُفْتَعِلٍ)، كما يُقال: (اِجْدَمَعُوا)، و(اجتمعوا)"(22) ، ونقرأ شاهده الشعريّ في قول أُحَيْحَة بنِ الْجُلاخ الْأَوْسِيّ، يتألم من تَفرُّق قومه: [وَلْتَبْكِنِي عُصْبَةٌ إِذَا (اِجْتَمَعَتْ)/لَمْ يَعْلِمِ النَّاسُ مَا عَوَاقِبُهَا(23)]، وقوله: [(فَحَصَرُوهُ بِقَصْرِهِ)]؛ معناه: (حبسوه وضيقوا عليه، وهو فعل مُتعد. وشاهده الشعري نقرأه عند عتيبة بن الحارث التميمي: [إِنْ (يَحْصُرُوكَ) بِذِي قَارٍ فَذَاقِنَةٍ/فَقَدْ أُعَرِّفَهُ بِيْدًا وَأَعْلَامَا(24)].
- يقول الشيخ عيسى الطائي: [(فَصَالَحَهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ وَالاِنْجِلَاءِ مِنْهَا بَتَاتًا)]، فـ(صَالَحَهُمْ): فعلٌ متعدٍ من (صلح)، ومعناه: نزل على رأيهم، ووافقهم على الخروج من ظفار، وسالمهم. وشاهده الشعريّ نقرأه عند المُهَلْهَل بن ربيعة التَّغْلُبِيّ في قوله: [لَا أَصْلَحَ اللهُ مِنَّا مَنْ (يُصَالِحكُمْ)/مَا لاحَتْ الشَّمْسُ فِي أَعْلَى مَجَارِيهَا(25)]. وقوله: (الاِنْجِلَاء)، ومعناه: (الارتحال) عن ظفار، وهو (مصدر)، وشاهده اللغويّ نقرأه في قول أبي عُبيدة يصف قوما من العرب: [فَانْجَلَوا هَارِبين، فَأَقْبَلُوا، حَتَّى نَزَلُوا لَعْلَعَ(26)]، وقول الطائيّ: (بَتَاتًا)، فمعناه: (الرحيل مع الانقطاع والانفصال)، وهو مصدر من (بَتَتَ)، ومنه قول النابغة الشيبانيّ: [فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا (بَتَاتٌ) وَأَصْبَحَتْ/بَعِيْدًا، وَلَمْ تَحْلُلْ سَمَائِي وَلَا أَرْضِي(27)].
- يقول الشيخ عيسى الطائي: [(فَخَرَجَ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ)] فيه تَنَاصٌّ مع الآية القرآنية {فَخَرَجَ مِنۡهَا خَآئِفٗا يَتَرَقَّبُۖ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ}(28) ومنها "نلمح السمة الواضحة في الشخصية الانفعالية، والتَّوَفّز والتَّلَفّت"(29)، ومعنى (يَتَرَقَّبُ): خائفٌ وحَذِر، وهو فعل مُتعدٍ من (رَقَبَ)، ونقرأ شاهده الشعريّ عند كعب بن مالك الخزرجيّ الأنصاريّ: [فَلَا تَعْجَلْ أَبَا سُفْيَانَ، وَ(ارْقُبْ)/جِيَادَ اللهِ تَطْلُعُ مِنْ كَدَاءِ(30)]؛ فغادر من ظفار إلى (المكلا) في (حضرموت) اليمنيّة، ثم انتقل إلى إمارة (جدة)، ومنها [(لَحِقَ بِالْقُسْطَنْطِيْنِيَّةِ، فَأَكْرَمَهُ السُّلْطَانُ عَبْدُ الْحَمِيْدِ)]، حيث "كانت له حظوة عند السلطان عبد الحميد، وخلع عليه بعض النياشين السامية، وأنعم عليه بلقب باشا"(31)، و"في عام 1879م، أصبح السيد فضل بن علويّ أحد مستشاري السلطان عبد الحميد القلائل في قصر القسطنطينية"(32)، و"لم تنتهِ محاولات السيد فضل بن علوي في تثبيت أقدامه في ظفار؛ ففي سنة 1886م، أرسل ابنه (محمد)، إلى (عدن) على متن سفينة مع 100 من العرب وأسلحة للاستيلاء على (ظفار)، فقام المندوب السامي بمصادرة الأسلحة، وأخبر (السيد محمد بن السيد فضل بن علويّ) بأنّ حاكم ظفار هو سلطان عُمان وليست ظفار إمارة تركية؛ فعاد إلى (الحُدَيدة)"(33). و[(الْقُسْطَنْطِيْنِيَّة)] مدينة أسسها الامبراطور الروماني قسطنطين الأكبر أول امبراطور يعتنق المسيحية، وقد وقفت عقبة أمام الغازين من مختلف أجناس الأرض، وحاصرها العثمانيون ودخلها محمد الفاتح يوم الثلاثاء 20 من جُمادى الأولى سنة 875هـ = 29 من مايو 1453م، واتخذها عاصمة له وأطلق عليها اسم (إسلام بول) أي (دار الإسلام)، حُرّفت الكلمة واشتهرت باسم (استانبول - اسطنبول)، وتحولت لتصبح المركز الفكري الأول في العالم الإسلاميّ"(34). [(فأكرمَه)]، أي: أعزّه وأجلّه، (فعل (مُتعدٍ)،ونقرأ شاهده الشعريّ عند (بَلْعَاء بن قيس اليَعْمَرِيَ الكِنانيّ: [وَإِذَا أَهَانَكَ مَعْشَرٌ (أَكْرِمْهُمُ)/فَتَكُونَ حِينَ تَرَى الْهَوَانَ وَتَسْمَعُ] (35)[(السُّلْطَانُ عَبْدُ الْحَمِيْد الثاني)]، السلطان الرابع والثلاثون وبويع بالخلافة بعد أخيه مراد في أغسطس 1876م، وأقرّ (أول دستور) للبلاد يضمن الحريات المدنيّة، والأخذ بالنظام البرلمانيّ في الحُكم، و(الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية)، وظهرت في عهده فكرة (الجامعة الإسلامية) التي وقف الغرب الاستعماريّ ضدها بجميع حكوماته، ودعا أيضًا إلى اتخاذ (اللغة العربية لغة رسمية) للإمبراطورية التركية، و(نظّمَ المدارس) وحارب (سفور المرأة)، وأنشأ (سكة حديد الحجاز) ووصل في عهده أول قطار إلى المدينة المنورة وامتدت خطوط السكك الحديدية من جبال الأطلس غربا حتى بلاد الشام والحجاز شرقا"(36)
حملة السلطان تركي على ظفار
- يقول الشَّيخُ عِيَسى الطَّائِيُّ: [(ثُمَّ تَوَجَّهَ الشَّيْخُ عَوضُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الشَّنْفَرِيُّ الْمُلَقَّبُ بِـ(الْمَوْتِ) إِلَى السُّلْطَانِ الْهُمَامِ تُرْكِي بِنِ سَعَيِدٍ سُلْطَانِ عُمَانَ يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَبْعَثَ وَالِيًا مِنْ قِبَلِهِ إِلَى ظَفَار، وأَنْ تَكُوْنَ ظَفارِ مُلْحَقَةً بِأَمْلَاكِهِ)].
وفي 1879م أرسل السلطان تركي بن سعيد حملة بريّة وبحرية يقودها سليمان بن سويلم إلى ظفار في بداية أبريل، وفي يوم 11 من مايو كتب الوالي بن سويلم إلى السلطان تركي بأنّه دعّمَ مكانته في ظفار، وكان أول ما عمله سليمان لاسترضاء الأهالي إعلانه تخفيض نسبة جباية العوائد الجمركية (الضرائب) من 5% إلى 4%"(37)
السيد فضل بن علوي شهيدًا
وفي الأخير يبقى التاريخ الشاهد الوحيد على فترة حكم السيد فضل بن علويّ الذي قضى نحبه شهيدًا مغدورا به في القسطنطينية سنة 1318هـ - 1900م، ودُفن في منطقة (حي شمبرليتس تاش) بـ(حي السلطان أحمد) في (الجزء الأوروبيّ من اسطنبول)، بمقبرة السلاطين قبره يتوسط المقبرة، بجوار ضريح السلطان عبدالعزيز والسلطان محمود الثاني والسلطان عبدالحميد الثاني آخر الخلفاء المسلمين.
*****
يُتبع،،
المصادر والإحالات:
(01) معجم البلدان والقبائل اليمنية، إبراهيم المقحفي، ج1، دار الكلمة للطباعة والنشر والتوزيع، صنعاء، اليمن، 2002م، ص ص: 119، 120
(02) تاريخ حضرموت السياسيّ، صلاح البكري، ج2، ط1، مكتبة الصنعانيّ، 1935م، ص ص: 118، 119
(03) المرجع السابق، معجم البلدان والقبائل اليمنية، ص: 635
(04) قطب الزمان السيد علوي مولى الدويلة - منفرم - كيرلا- الهند، من محاضرة الشيخ الدكتور بهاء الدين محمد الندوي في مؤتمر دولي بالمملكة المغربية، 25 من أكتوبر 2014، https://shafeequehudawi.blogspot.com/2014/10/blog-post_81.html
(05) انظر ترجمته في مقدمة كتابه: غقد الفرائد من نصوص العلماء الأماجد، ط1، دار التراث، حضرموت، اليمن، 1918م، ص ص: 5، 6/ لوامع النور: 1/283، تاج الأعراس: 2/437، فيض الملك الوهاب: 2/1276، الأعلام للزركلي: 5/150، الأعلام الشرقيّة: 1/34، قرّة الناظر: 1/285
(06) كتاب:"عدة الأمراء والحكام لإهانة الكفرة وعبدة الأصنام" للسيد فضل بن علوي وعناصر المقاومة فيه ضد الاستعمار البريطانيّ، عبد الرزاق. ب.م، باحث دكتوراه، جامعة كيرالا، ص: 7
(07) المرجع نفسه، ص: 3
(08) انظر: إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت، السيد عبد الرحمن السقاف، دار المنهاج، لبنان، بيروت، 2005م، ص: 204- الأعلام 5/150- الأعلام الشرقية 1/23- معجم المطبوعات 1421
(09) قطب الزمان السيد علوي مولى الدويلة، مرجع سابق
(10) دليل الخليج، القسم التاريخي، ج.ج. لوريمر ص: 902
(11) المرجع نفسه، ص: 901، 902
(12) المرجع نفسه، ص: 903
(13) المرجع نفسه، ص: 803، 804
(14)عمان تاريخ له جذور، ص: 128
(15) المرجع نفسه، ص: 128، 129
(16) المرجع نفسه، ص: 129
(17) المرجع نفسه، ص: 129
(18) دليل الخليج، القسم التاريخي، ج.ج. لوريمر، ص: 902
(19) المرجع نفسه، ص: 130
(20) إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت، مرجع سابق، ص: 204
(21) دليل الخليج، القسم التاريخي، 902
(22) كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي(ت، 175هـ)، تحقيق: مهدي المخزومي، إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال، القاهرة، د.ت 10/353
(23) خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، عبد القادر بن عمر البغداديّ(ت، 1093هـ)، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، دار الرفاعي، الرياض، 2000م، 3/352
(24) شرح نقائض جرير والفرزدق، رواية أبي عبد الله اليزيديّ عن سعيد السكري عن حبيب عن أبي عُبيدة، تحقيق: محمد حوّر، وليد خالص، منشورات المجمع الثقافي، أبوظبي، ط2، 1998م، 1/241-242
(25) ديوان المهلهل، شرح: أنطوان محسن القوّال، دار الجيل، بيروت، ط1، 1995م، ص: 93
(26) المرجع السابق، شرح نقائض جرير والفرزدق، 3/109
(27) ديوان نابغة بني شيبان، تحقيق: أحمد نسيم، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، ط1، 1932م، ص: 116-117
(28) سورة القصص، الآية: 21
(29) في ظلال القرآن، سيد قطب، تفسير سورة القصص - الآية 21
(30) ديوان كعب بن مالك الأنصاريّ، تحقيق: سامي مكي العاني، جامعة بغداد، مكتبة النهضة، مطبعة المعارف، بغداد، ط1، 1966م، ص: 169
(31) إدام القوت، ص: 204
(32)عمان تاريخ له جذور، مرجع سابق، ص: 130
(33) المرجع نفسه ص: 130
(34) فتح القسطنطينية، عماد البحراني، مجلة كان التاريخية المحكّمة، السنة الثانية، العدد:3، ص: 61-64
(35) شعر بلعاء بن قيس الكناني، تحقيق: أحمد الهنداسيّ، مجلة العرب، الرياض، س:34،ج1،2، 1998م، ص: 79
(36) السلطان عبد الحميد الثاني، د.علي الصلابي، المكتبة العصرية، صيدا بيروت، 2002م، ص:4-52
(37) دليل الخليج، القسم التاريخي، ج.ج. لوريمر، ص: 902