حكمة الفقد وأثر البقاء

 

سهام الحارثية

حين نفقد شخصًا عزيزًا، نمر بلحظة استثنائية لا تشبه أي شيء آخر، تلك اللحظة التي تترك فيها عزيزك في قبره وترحل هي اللحظة التي تعيد تشكيل رؤيتك للحياة بشكل جذري، تدرك فجأة أن الحياة ليست مضمونة، وأنها عابرة كمرور الرياح، وأن الموت هو الحقيقة الوحيدة التي لا مهرب منها.

في تلك اللحظة، يظهر نوع جديد من الوعي العميق. تدرك أن الحياة لا تقاس بطولها، بل بما نعيشه خلالها من تجارب، وبما نتركه من أثر… الشخص الذي ودعته لم يرحل تمامًا، بل ترك بصمة خالدة في قلبك وروحك. وفاته تُيقظك على حقيقة أن الحب والذكريات هما الإرث الحقيقي الذي يبقى بعد الفناء الجسدي.

حين تبتعد خطواتك عن القبر، يبدأ قلبك في استيعاب ما لا تستطيع الكلمات التعبير عنه!! تدرك أن الفراق لا يعني النهاية، بل بداية لحياة جديدة تُعاش بشكل أعمق. في هذا الألم، تتعلم الحكمة: الحياة هدية قصيرة، وعلينا أن نقدر كل لحظة فيها، لا بالأشياء المادية أو النجاحات السطحية، بل بالعلاقات الإنسانية الحقيقية العميقة وبالطريقة التي نؤثر بها على الآخرين.

في لحظات الفقد، قد تجد نفسك تتغير داخليًا، تكتشف جوانب جديدة من شخصيتك.. الفقد يعيد ترتيب أولوياتك، فتدرك أن العلاقات الإنسانية والقيم الأخلاقية هي أثمن ما يمكن للإنسان أن يحافظ عليه، ما كان يبدو في السابق عاديًا ومتوفرا متى ما احتجته يصبح الآن ذا قيمة رغم غيابه وتبدأ في التفاعل مع الآخرين بوعي أكبر، محاولًا بناء ذكريات أكثر صدقًا ومعنى.

تكتشف أن الحياة تشبه رحلة قصيرة، وأننا جميعًا مسافرون فيها. ليس المهم ما نمتلكه من أشياء، بل ما نتركه من أثر في قلوب الآخرين، الحياة، مثل موجة في بحر الزمن، تظهر وتختفي، لكنها تترك تموجات تستمر في الامتداد بعد أن تنحسر!! كل منَّا يسير في هذا العالم تاركًا خلفه تموجات من الذكريات والتأثيرات التي لا تزول.

في أوقات الفقد، يلجأ الإنسان إلى الروحانية للبحث عن السلام الداخلي وتجد أن الإيمان يخفف من وطأة الألم، ويضفي طمأنينة على القلب وتدرك أن الفراق ليس نهاية للعلاقة، بل بداية لوجود روحاني جديد يستمر بالدعاء والذكرى فالشخص الذي ودعته يظل موجودًا في روحك من خلال الدعوات التي ترفعها له، ومن خلال الأعمال الخيّرة التي تقوم بها باسمه.

مع مرور الزمن، تدرك أن أعظم ما يمكن أن تتركه ليس ما جمعته من ممتلكات أو نجاحات مادية، بل الأثر الذي تتركه في قلوب الآخرين. الحب، والصدق، والرعاية التي قدمتها لمن حولك هي الإرث الحقيقي الذي يعيش بعدك. الشخص الذي رحل عنك ترك أثرًا في حياتك، وهذا الأثر سيتواصل في الأجيال القادمة من خلالك.

مثلما تتساقط الأوراق في الخريف وتزهر الأشجار في الربيع، كذلك هي حياتنا .. كل شيء في الحياة يخضع لدورة مستمرة من الفناء والتجدد، الموت، على الرغم من قسوته، هو جزء من هذه الدورة الطبيعية فيُذكّرنا بأن الحياة تستمر، وأن الأثر الذي نتركه يمكن أن يزهر في قلوب الآخرين كما تزهر الأشجار بعد شتاء طويل.

في النهاية، تأتي الحكمة الأكبر من التصالح مع الفقد. تدرك أن الحزن جزء طبيعي من الوجود الإنساني، وأن الألم يمكن أن يصبح مصدرًا للنمو الروحي والداخلي. الفراق ليس نهاية، بل هو تحول لوجود آخر، يتجاوز حدود الزمن والمكان. السلام الداخلي يأتي عندما تتحول الذكرى إلى طاقة إيجابية، تذكرنا بأننا لا نعيش لأنفسنا فقط، بل نترك أثرًا في حياة من نحب، تمامًا كما فعل من رحل.

سلام الى روحك الطاهرة.. أبي الغالي.

تعليق عبر الفيس بوك