افتراق مفهوم السلام بين العرب وإسرائيل

 

د. عبدالله الأشعل **

المشكلة التي لمستُها خلال المفاوضات مع إسرائيل وكنت بالإدارة القانونية بوزارة الخارجية المصرية هي أن العرب وإسرائيل، كل منهما في وادٍ آخر؛ فكلاهما لديه أهداف مختلفة وتصور مختلف عن الآخر.

وقد واجه العرب مشكلة الصراع مع عدو غامض، فلم تكن إسرائيل بهذا الوضوح الذي كشفته عمليات "طوفان الأقصى" وسلوك إسرائيل الواضح وتصريحات كبار المسؤولين فيها. ولذلك؛ فإن العرب تصوروا أن الصراع عسكري فقط، وعندما ذهبت جيوش 6 دول عربية لصد العصابات الصهيونية عام 1948 لم تكن تفهم طبيعة أرض المعركة وتسليح العدو وعدده واستعداده، كما إن قيادة الجيوش العربية وكَّلت إلى الملك عبدالله ابن الشريف حسين حاكم مكة السابق، ويبدو أن الملك عبدالله لم يكن مُقتنعًا بالصراع مع إسرائيل؛ فلم يحدث تنسيق بين الجيوش العربية، وكان الجيش المصرى أقوى جيوش المنطقة، لكن لم تكن الأمور واضحة بالنسبة لقياداته؛ فوقع تحت حصار العدو المُدبَّر في قرية الفلوجة بغزة، وظل الحصار قائمًا عدة أشهر، واشترطت إسرائيل لفك الحصار أن تُوقِّع مصر اتفاقية للهدنة (وهي اتفاقية 9 فبراير 1949) في جزيرة رودس اليونانية، ووقعها نيابة عن مصر الضابط محمود رياض الذي عرفته الحياة السياسية بعد ذلك، ويبدو أنَّ إسرائيل اختارت الجيش المصري تحديداً.

أما السلام مع إسرائيل، فقد كان هو الآخر لُغزًا بدأته الولايات المتحدة مع الرئيس المصري الراحل أنور السادات، ويبدو أن واشنطن قدرت أن تبدأ الارتباطات مع مصر، وقد كانت مصر مُهمة للغاية خلال الحرب الباردة، ولم تتحمل واشنطن أن تتحالف مصر مع روسيا ضد إسرائيل؛ لذلك بالغت واشنطن في إلحاق الهزيمة بالجيش المصري وتمكين إسرائيل عام 1967.

هكذا بدأ العرب بعد 1967 وهزيمة مصر، مرحلةً جديدةً ولم تشفع بسالة الجيش المصري في أكتوبر 1973 في أن تُزيل آثار الانكسار، لكن الحقيقة أن شارون أوضح في مذكراته التي نُشرت دراسة عنها 2003 حول الفكر الصهيوني في مذكرات آينشتاين وشارون؛ إذ قارن شارون العقلية العسكرية والسياسية الفذة للجندي المصري عام 1967 والجندي المصري عام 1973، وأكد في هذه الدراسة أن الجيش المصري يجب ألّا يُستهان به، فإنه الخطر الأكبر على إسرائيل، خصوصاً إذا وجد القيادات السياسية والعسكرية والوطنية والتي تتميز بالكفاءة (لا شك أن القادة العظام للجيش المصري فى عام 1973 كانوا الميزة الكبيرة لأنور السادات بعد قرار شن حرب تحرير سيناء في 6 أكتوبر عام 1973).

ويترتب على ذلك أن النظام السياسي في مصر لم يُدرك بالكامل معنى قيام إسرائيل الصهيونية؛ فاستجابت لطلبات كثيرة في معاهدة السلام 1979، وهذا هو المعيار الذى تزعمه إسرائيل للتدليل على أن المُنتصر يُملي شروطه على المهزوم، وتعترف إسرائيل بأن الجيش المصري أبلى بلاءً حسنًا عام 1973، لكن نتائج الحرب السياسية لم تستقم مع عظمة الجيش المصري في الميدان، ويفسرون ذلك في إسرائيل أنه يضاف إلى مكرمات واشنطن على إسرائيل، وبالذات هنري كسنجر اليهودي الألماني الذي كان وزيرًا لخارجية الولايات المتحدة ومن قبلها مستشار الأمن القومي الأمريكي، وهو الذي تولى ملف السادات ومصر، وثبت أنه كان يتفاوض مع مصر نيابة عن إسرائيل، وهو الذي أحبط توصيات الفريق سعد الدين الشاذلي للسادات، لإنهاء "ثغرة الدفرسوار" وإنقاذ الجيش الثالث الميداني من الحصار والاختناق، ولذلك بكى المشير محمد الجمسي وزير الحربية آنذاك، وهو يُوقِّع على اتفاق الكيلو 101، الذي أنهى الثغرة مقابل فك الحصار عن الجيش الثالث الميداني، وكانت النتيجة أن مناحم بيجن تفاوض مع السادات في كامب ديفيد بواسطة الرئيس جيمي كارتر، وأملى شروط إسرائيل في كامب دايفيد واتفاقية السلام.

لقد فهمت إسرائيل السلام بمعناه الروماني"Pax" وفهم العرب السلام بمعنى "Peace"، أما السلام الإسرائيلي فيعني تسليم العرب بمشروعية اللص الصهيوني وتأمينه على سرقاته والموافقه على أن يمضي فى مشروعه حتى يُغيِّر هوية المنطقة إلى صهيونية لا عربية، وقد بشّر بذلك الرئيس الإسرائيلي شمعون بريز فى كتابه "الشرق الأوسط الجديد"، ومعنى ذلك أن الشرق الأوسط مُضاد لعروبة المنطقة، وأن إسرائيل الكبرى ستُصبح مركز التفاعلات الاقليمية في المنطقة.

لذلك فإن تفسيري للصراع بين إيران وتركيا من ناحية، وبين إسرائيل من ناحية أخرى، هو حول من يُسيِطر على المُقدَّرات المصرية والعربية؛ فساحة العالم العربي أصبحت مسرحًا للتنافس بين المشروعات الاقليمية الثلاثة وهي: الإسرائيلية والإيرانية والتركية، ولذلك لو ظهر مشروع عربي فإنه يُنهي هذه المشروعات الثلاثة الإقليمية، لكن ظهور المشروع العربي لا يُرضي إسرائيل والولايات المتحدة؛ لأن معناه تحرير فلسطين من الصهاينة، وتأكيد عروبة المنطقة؛ علمًا بأن العروبة لا تتناقض مع الفارسية والتركية، فكُلها أمم عظيمة، لها مكان فى التاريخ، ونأمل أن يُقيِّض الله للأمة العربية من يُعيد أمجادها في المستقبل، بالتعاون مع الفرس والاتراك.

الخلاصة.. أنه لا يُمكن أن يعقد سلام بين الضحية والجلّاد؛ إذ إنَّ الجلّاد يُريد الضحية، وأن الاتفاقيات مع الضحايا العرب مجرد هدنة، ريثما يستعد الجلاد لالتهام الضحية؛ لذلك صيغت المبادرة العربية للسلام بحُسن نية، وتنص على أنه إذا انسحبت إسرائيل من الأراضي العربية واعترفت بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني سيتم التطبيع العربي الجماعي مع إسرائيل، وقلبت إسرائيل المعادلة وهي أن إسرائيل مُستعدة للانسحاب بعد الاعتراف العربي بها؛ أي أن الاعتراف يأتي أولًا!

** أستاذ القانون الدولي ومساعد وزير الخارجية المصري سابقًا