هل تُكرِّر دول الخليج الأخطاء الاستراتيجية لأوروبا؟

 

 

د. عبدالله باحجاج

انتهيتُ من كتابة بحثٍ عميقٍ لإحدى الدوريات الصحفية الخارجية المُتخصصة في الشأن الخليجي، حول تأثير صعود اليمين المُتطرف في أوروبا على دول مجلس التعاون الخليجي، لن نخوض في البحث فهو حصري لهذه الدورية، لكنني سأقف عند الأسباب التي تُنتِج اليمين المُتطرف كسيل جارف في القارة الأوروبية، ومقارنة هذه الأسباب بنظيرتها الخليجية؛ لأنني وجدتها متشابهة، وهذا ما يدفع بي إلى الكتابة عن الأسباب؛ للتحذير من تداعياتها المُقبلة خليجيًا مع التباين بين الدول الخليجية.

دافعية الكتابة وراؤها تتمثل في خشيتنا من إنتاج مثيلاتها في منطقتنا الخليجية، وهنا نطرح تساؤلًا منهجيًا لدواعٍ تحليلية مُجرَّدة، وهو:

الأسباب التي أنتجت ظاهرة اليمين المتطرف باللونين "السياسي والشعبوي" في أوروبا، هل بالضرورة ستُنتِج الظاهرة نفسها في الخليج؟

التساؤل سالف الذكر لم نطرحه في صيغة البحث عن الأسباب المشتركة بين الجانبين، وإنما انتقلت به فورًا إلى التداعيات مباشرة، وهذا يعني أنها واحدة، فهل هي كذلك في انعكاساتها الاجتماعية في الخليج؟ هذه القضية جديرة بالبحث بصراحة وشفافية موضوعية، ولن يتصدى لها إلّا أبناء الخليج الحريصون على ديمومة الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي لبلدانهم، وحصانتها من الاختراقات الإقليمية والعالمية، في حقبة يتصاعد فيها مفهوم حديث يُطلق عليه "التطرف العنيف" الذي يكون وراءه فردانية منعزلة "فرد" أو جماعات دون انتماءات فكرية أو سياسية، ويكون دافعها حالة احتقان نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية وانعكاساتها القاسية على المجتمعات.

ويتزامن "التطرف العنيف" مع عودة إرهاب تنظيمات الجماعات الإرهابية المسلحة التي من خلال متابعتنا لها رصدنا معطيات تشير إلى قرب عودتها القوية، وبالذات تنظيم "القاعدة" مع محاولة تنظيم "داعش" إعادة إبراز وجوده من خلال عمليات صغيرة، وهو في طور إعادة بناء ذاته مُجدَّدًا بعد استهداف قواعده وكوادره في العراق وسوريا. هذا يضع أوروبا الآن في أخطر مرحلة في تاريخها المعاصر؛ حيث يتقاطع ما سبق ذكره مع صعود اليمين المتطرف، الذي برز نتيجة فقدان الثقة في الأحزاب الحاكمة الليبيرالية التي جنحت بنظام النيوليبيرالية إلى صناعة الفقر وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للأوروبيين، وتحمليهم أعباءً ضريبية متعددة، وتزامن معها المساس بالهوية التي هي من النقاط الحُمر لليمين المتطرف.

وبذلك تتحقق كلمة الأديب الألماني جونتر جراس عن معضلة نشأة الاتحاد الأوروبي التي يراها في النزعة الاقتصادية التي أهملت الهوية الثقافية؛ حيث يقف الآن اليمين المتطرف الشعبوي ضدها "سياسيًا" عبر دعمه الأحزاب اليمينة المتطرفة التي اكتسحت الانتخابات في عدد من دول الاتحاد وفي البرلمان الأوروبي نفسه، لكنها لم تحقق الأغلبية، وكذلك "شعبويًا" من خلال الاحتجاجات والمظاهرات التي تتخللها أعمال عنف غير منظمة، وهذا تجسيد للمفهوم الجديد سالف الذكر وهو "التطرف العنيف".

ويبني اليمين تطرفه ضد المسلمين خاصة والأجانب عامة، وضد الليبيرالية التي يرى أنها تُحدِث تحولات عميقة سلبية في البنية الاجتماعية، كما إن دور الدولة فيها مجرد حارسة للمصالح والمنافع للشركات الكبرى، كما لدى اليمين تمسك متطرف بالقيم الوطنية وبالهوية السياسية والثقافية، وميل كبير إلى المحافظة الدينية المسيحية. وتطرفه يُستوْعَب الآن في إطار اللعبة السياسية الديمقراطية، عبر امتصاص جنون حماسه في صناديق الانتخابات. لكن كيف إذا لم يجد في الخيار الديمقراطي غايته؛ سواءً من خلال عدم تمكن الأحزاب اليمينة التي تمثله على تحقيق الأغلبية لصناعة القرارات والتشريعات، أو أنها تفشل من خلال تكتلاتها الآيديولوجية في تحقيق الأجندات الشعبوية؟!

هنا يبرز لنا مفهوم "التطرف العنيف" الذي هو أكثر الاحتمالات ترجيحًا.

في المقابل، ما الوضع في المنطقة الخليجية؟

لا يخفى على الكل أنَّ بعض المفاصل الخليجية تسير في الخطأ الاستراتيجي الأوروبي نفسه؛ فهناك نزعة مالية طاغية مقابل عدم مراعاة الأبعاد الاجتماعية، وهناك انفتاح ديموغرافي وفكري على الخارج، قد يقلِب ثوابتها الصلبة، كالديموغرافيا والهوية وتماهي تعدُّدها الفكري، ولم تعد خافيةً مآلات هذه التحوُّلات على المجتمعات، فبرزت ظواهر كالبطالة والفقر وغزو ثقافات تمس الهوية؛ مما يجعلنا نقلق من تكرار التداعيات الأوروبية داخل المنطقة الخليجية. ذلك أن طبيعة المقارنة بينهما واضحة الآن، فبقدر ما بني اليمين الأوروبي تطرفه ضد المُسلمين والمهاجرين لأسباب الهوية والقلق على الوظائف وفقدان الأمن، قد يُنسخ ذلك داخل المنطقة الخليجية؛ لأنَّ التوجه هو ذاته، وقد تنتقل النزعة المتأصِّلة لليمين المتطرفة في أوروبا ضد الليبيرالية/ النيوليبيرالية إلى الخليج للأسباب ذاتها؛ حيث الضرائب الرأسية والفوقية، وغل دور الحكومات في الاقتصاد ودعم المجتمعات، وفتح السوق للرأسماليين متعددي الجنسيات.

ومن يعتقد أن هذه التحولات الخليجية ستتم دون أثمان سياسية وأمنية فهو يعيش حالة وعي منفصلة عن واقعها الوطني، وبمعزل عن سياقاتها التاريخية، ومجردة من الأخذ بإكراهات جيواستراتيجة، فضلًا عن حجم تحدياتها القديمة والجديدة التقليدية والاستثنائية. جاء الآن صعود اليمين المتطرف ومخاطره في أوروبا ليضع هذا الوعي أمامه نموذجًا للاستفادة منه، ومن لديه أمن واستقرار ومجتمع متجانس وبأفكار قيمية صلبة، لا بُد أن يدرس الأسباب التي يصعد عليها اليمين المتطرف في أوروبا، خاصة صعوده من أرحام التحولات الأوروبية المالية والاقتصادية بنسق النيوليبيرالية، وإهمالها الهوية الثقافية والآيديولوجية للشعوب؟ ودور فشل الأنظمة الليبيرالية الحاكمة في تحقيق التنمية والرفاهية للشعوب الاوروبية على صعود اليمين المتطرف؟

من الضرورة أن تخرج كل دولة خليجية من دراسة صعود اليمين المتطرف في أوروبا بخارطة شاملة للمخاطر، إذا ما استمرت الدول الخليجية على رهاناتها على النيوليبيرالية وفق النسخ الأوروبية التي يظهر بسببها اليمين المتطرف مرعبًا داخل بلدانها، وستأخذ التداعيات في الخليج أكثر حدية وتأثيرًا من نظيراتها الأوروبية؛ لأن في التجربة الأوروبية يُمتص خطر اليمين المتطرف من خلال اللعبة الديمقراطية، لكن إذا فشلت، وهذا وارد، فإنها ستدخل في أتون "التطرف العنيف" لحقبة من الزمن، في تزامن مع خطر التنظيمات الإرهابية المسلحة. على عكس المنطقة الخليجية التي تفتقر لوسائل الاحتواء الدائمة والمؤقتة، لذلك ليس هناك من خيار سوى إعادة الحسابات في الخيارات المالية والاقتصادية الراهنة، ومسار الانفتاح على الديموغرافيات والآيديولوجيات الأجنبية.

هذه رؤية عميقة نُقدِّمُها بشفافيتها الموضوعية؛ لأنَّ المنطقة الخليجية لم تتوغل في أعماق التحولات، ما عدا الجانب الديموغرافي الذي وصلت فيه الاختلالات السكانية إلى مستويات مُقلقة فعلًا، وهذا يعني أنَّ الاستدراك ما يزال في وقته الزمني.

الأكثر قراءة