إسرائيل.. بين اليهودية والصهيونية

 

د. عبدالله الأشعل **

عندما قام تيودور هرتزل ببلورة المشروع الصهيوني في نهاية القرن التاسع عشر، اعتقدَ أن الصهاينة هم فئة مُضلَّلَة من يهود العالم، وهم عصابة جُهِّزت لكي تنقض على فلسطين؛ لذلك لا بُد من إيجاد المُبرِّرات التى تجذب الصهاينة من بين اليهود.

أما اليهود الحقيقيون، فقد هاجموا المشروع وقالوا إنِّه لا يليق بالشريعة اليهودية أن تسرق وطن الغير، لذلك بذلت بريطانيا مع عصابة الصهاينة جهودًا مُضنية للتبرير الديني للهجرة إلى الأرض المقدسة وهي أرض الميعاد، وقالوا إنَّ خِيرة لليهود هم الذين ينتظمون في المشروع الصهيوني، فرارًا من الاضطهاد؛ باعتبارهم "شعب الله المختار"، وأعلن الحاخام الأكبر لليهود استغلال التوراة المُزوَّرة لخدمة المشروع، وأكد أنَّ مساندة إسرائيل واجب ديني في التوراة. والدليل على أن التوراة مُزوَّرة مِصداقًا لإخبار القرآن الكريم أنَّ الحاخام وغيره أصدروا تصريحات بإبادة الأغيار، وهذا يُناقض التوراة الحقيقية التى تُعلي من شأن النفس البشرية وتُحيطها بالقداسة، وأي كتاب مُقدس يُناقض هذه القاعدة يكون موضوعًا، ويخرج من عِداد الكتب المقدسة. اليهودي الحقيقي ضد إنشاء إسرائيل وضد المشروع الصهيوني، ولكن الصهاينة يُوظِّفون الدين لتبرير جرائمهم في فلسطين وفي المنطقة؛ وهرتزل التبس عليه الفارق بين المشروع السياسي الإحلالي والاستعماري والإبادي، وبين الشريعة اليهودية الغراء.

وكان واضحًا مُنذ البداية أن المشروع الصهيوني مشروعٌ سياسي يتمسَّح بالدين، ويُردِّد أوصافًا تجذب العامة بين اليهود. لذلك نشأت إسرائيل كدولة علمانية تطمح لأن تكون دولة يهودية، وهذا مستحيل، وكانت الإشارة المبكرة إلى اليهودية في المشروع الصهيوني في قرار التقسيم رقم 181 الصادر من الجمعية العامة للأمم المتحدة فى 29 نوفمبر 1947، وكان هذا القرار تدليسًا على العالم؛ لأن جوهر المشروع الصهيوني يدَّعي أن فلسطين ملكٌ لليهود الصهاينة، وأنهم يرفضون تقسيم أرضهم، كما أوضح ساستهم مؤخرًا، خاصة عندما أصدرت محكمة العدل الدولية في 17 يوليو 2024 رأيًا استشاريًا وأكدت أن علاقة الصهاينة بفلسطين "علاقة احتلال"، وهذا وصفٌ ترفضه إسرائيل كما نرفضه أيضًا، لأن الصهيونية مشروع استعماري يهدف إلى اغتصاب فلسطين وإبادة أهلها لكي يحل محلهم الصهاينة، فمن يقبل المنطق الصهيوني المُشار إليه من بين اليهود يترك اليهودية ويندرج فى دولة المافيا.

قرار التقسيم أشار إلى تقسيم فلسطين بين اليهود والعرب، وغفل عن تصحيح الوصف ليكون تقسيم فلسطين بين الصهاينة وبين الفلسطينيين. ويبدو أن العرب أدركوا الحقيقة بعد قيام إسرائيل على قرار التقسيم علمًا بأن إسرائيل رفضت الاعتراف بالقرار، ورغم أن العرب رفضوا القرار- ومعهم كل الحق- إلّا أن إسرائيل اتهمت العرب على أساس أن رفض قرار التقسيم يمثل رفضًا للسلام، وفات العرب أن يدركوا أن السلام يعني عند إسرائيل تحقيق أهدافها وهو بمعنى "Pax" (أي حقن مهدئة) وليس "Peace" (أي السلام). كان المنهج الإسرائيلى مُناقِضًا للقانون الدولي، وكان هذا المنهج يقضي بأن تعتدي إسرائيل على الدول المجاورة وتحتل أراضيها، وتعتبر هذا الاحتلال مكافأة النصر ورهينة لكي ترد الأرض بتصرفٍ مقابل الاعتراف والتسليم لها استقواءً بواشنطن. والغريب أن إسرائيل أصدرت قانونًا عام 2017 يعتبر إسرائيل دولة يهودية، وهذا افتراء على الشريعة اليهودية، حتى من جانب اليهود المُتدينين والمتطرفين الذين هم أبعد ما يكونوا عن قيم اليهودية الحقة؛ ذلك أن شعاراتهم تُكرِّس سرقة الأوطان واللصوصية، وهي محتوى الصهيونية. وطبيعي أن تُصدِر إسرائيل قانونًا آخر يحظُر قيام دولة فلسطينية ما دامت الحركة الصهيونية تزعم أنها تملك فلسطين بمزاعم توراتية مُزوَّرة. من هنا أسقطت إسرائيل أسطورة "حل الدولتين".

إسرائيل الصهيونية تقضي علي المجتمع الفلسطيني، كما تقضي على كل مقومات الحياة، ومنها إصدار قانون يقضي بعدم الاعتراف بوكالة "الأونروا" ويعتبرها منظمة "إرهابية"، علمًا بأن اسرائيل دمّرت كافة مدارس الوكالة، وقتلت حوالي 190 من موظفيها.

المطلوب دوليًا سعي دول العالم- خاصة العرب والمسلمين- في إطار الأمم المتحدة، لاعتبار الصهيونية بسلوكها الإبادي أخطر من العنصرية والتطهير العرقي؛ بل إن الصهيونية عدو البشرية والإنسانية. والقرار الذي اتُخِذ في عام 1975 بمساواة الصهيونية مع العنصرية، لم يعد يكفي، كما إن المقاربة بين مصير العنصرية فى إسرائيل وجنوب إفريقيا ليس دقيقًا؛ لأن البِيض فى جنوب إفريقيا لم يَبيدوا السود، وإنما استعبدوهم، وهناك فارق بين الإبادة والاستعباد، ومصير جنوب إفريقيا أنها تحوَّلت إلى دولة ديمقراطية، ويستحيل أن تتحول ديمقراطية العصابة لكي تشمل أصحاب الأرض! ثم إن البعض فى جنوب إفريقيا لم يدَّعوا أنهم يستردون أرضهم، وإنما يعترفون بأن السود أصحاب الأرض. ولذلك يجب أن تتوقف المقاربة بين الوضع الفلسطيني ووضع جنوب إفريقيا.

وأخيرًا كان من الخطأ الجسيم إبرام اتفاقية سلام لتؤمِّن سرقات اللصوص، خاصة مصر التى يستهدفها المشروع الصهيوني؛ فكانت المعاهدة مع مصر تُعبِّر عن عدم فَهْم بمضمون المشروع الصهيوني إذا حسُنت النوايا.

الخلاصة.. مطلوبٌ داخل الدول في العالم تجريم الصهيونية، وبيان أنها أخطر انتهاك لقواعد القانون الدولي، ويمكن أمام القضاء الأمريكي تحدِّي قرارات الكونجرس الأمريكي التي تمتدح الصهيونية والتي تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل علاوة على قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وهو موضوع دعوى رفعتها بالفعل الدولة الفلسطينية.

** أستاذ القانون الدولي ومساعد وزير الخارجية المصري سابقًا