التعليم كأولوية وطنية

 

حاتم الطائي

 

قطعنا شوطًا كبيرًا في مسيرة تطوير التعليم.. ولكن ما زال أمامنا الكثير

ضرورة تطوير المناهج وتقليص عدد المواد الدراسية للتخفيف على الطلبة

التعليم أولوية وطنية وطريقنا نحو المستقبل المُزدهر

تُشرقُ الشمسُ على عُمانَ اليوم باعثةً أشعتها الذهبية المُحمّلة بتطلعات المُستقبل المُزدهر لأبنائنا وبناتنا من طلبة المدارس في جميع أرجاء وطننا الغالي؛ حيث سيبدأون عامًا دراسيًا جديدًا مُفعمًا بالطاقة والحيوية، تملؤهم الرغبة في النهل من شتى العلوم، عازمين على التَّسلح بالمهارات والمعارف التي تُساعدهم على الإسهام في بناء وطنهم الحبيب، مُتجهين إلى مدارسهم وأفئدتهم تتوق إلى لَمِ الشمل مع أصدقائهم القدامى، والتَّعرف على أصدقاء جُدد، مُعبِّرين عن امتنانهم لكُل مُعلِّم ومُعلِّمة، مُرددين بكل حُب وولاء وإخلاص "تحيا سلطنة عُمان حُرّة".

ينطلقُ اليوم العام الدراسي وعُمان بأسرها تتطلع إلى الغد بكل إيجابية وانفتاح على المُستقبل؛ إذ يحرص كل ولي أمر على تهيئة البيئة المُناسبة لأبنائه لتلقي التعليم وتوفير الظروف المُواتية التي تكفل لهم النبوغ الدراسي والتميُّز. وقد قطعت بلادنا شوطًا طويلًا على مسيرة تطوير التعليم، منذ أن صدحت أصواتنا خلف القائد تُردد "سنعلم أبناءنا ولو تحت ظل الشجر"، وحتى عصر "التابلت" و"الزووم". مسيرة حافلة بالتطوير والتحديث لمناهجنا التعليمية وطرق التدريس المتقدمة، مُستعينين بأفضل الخبرات الوطنية والأجنبية. وفي خضم هذه الرحلة المُمتدة من تطوير التعليم، لم تدَّخر الدولة جهدًا من أجل تطوير هذا القطاع؛ إذ أنفقت مليارات الريالات طيلة ما يزيد عن خمسة عقود، وشيَّدت آلاف المدارس ومؤسسات التعليم، لتحتضن مئات الآلاف من الطلبة، في مختلف الصفوف، وفي أنحاء هذا الوطن بلا استثناء.

لقد تحقق خلال تلك المسيرة الحافلة، العديد من الإنجازات المُشرِّفة التي برهنت حرص القيادة الرشيدة على تطوير التعليم لتكون عُمان في مصاف الدول المُتقدِّمة، ولكي يعتلي أبناؤنا قمم التفوّق والنجاح، تاركين بصمة لا تُنسى في مختلف مجالات العلوم والفنون والآداب. وعلى الرغم مما تحقق من هذه المنجزات، إلّا أننا ما زلنا نرى إمكانية تنفيذ المزيد من التحديث والتطوير، المزيد من المناهج المُتطِّورة التي تخدم مُتطلبات التنمية، لا تلك التي تمنح مجرد شهادة، المزيد من المعارف التي تصقل مهارات الطلبة وتُساعدهم على خوض غمار سوق العمل وهم مُتسلحين بما يُمكِّنهم من إثبات الذات وكتابة فصول من النجاح والتميُّز.

ومسألة وجود تحديات ينبغي مُعالجتها أمر طبيعي؛ إذ ستظل هذه التحديات تتابع مهما بلغت مسيرة التطوير والتحديث، في إطار السعي الحثيث والمتواصل نحو تجويد المنظومة التعليمية، ولذلك يُمكن رصد جُملة من التحديات نلخصها فيما يلي:

  1. الدراسة المسائية: إذ من غير المقبول ونحن في عامنا الرابع والخمسين من مسيرة التطوير والتحديث، أن يظل عددٌ من أبنائنا الطلبة يذهبون للدراسة المسائية، وتمتد بهم ساعات الدراسة حتى وقت العصر، في ظل ظروف بلادنا المناخية والارتفاع الشديد في درجات الحرارة والرطوبة وغيرها من العوامل الجوية التي تُضيف أعباءً كبيرة على الطلبة، خاصة الصغار منهم. وهذا يستدعي معالجة سريعة جدًا لهذا الوضع، والسعي لتوفير المدارس مهما كلَّف الأمر، مع إمكانية زيادة الأعداد في بعض المدارس الواقعة في المناطق كثيفة الطلاب، بما يضمن تلقي جميع الطلبة فرصًا عادلة في التعليم.
  2. تخفيف المواد وتطوير المناهج: فما زال التعليم في مناهجنا المختلفة يعتمد على تلقين الطلاب المعلومات عن طريق الحفظ لا الفهم، والنتيجة أنَّ الطالب بمجرد أن يخرج من الامتحان لا يتذكر سوى القليل جدًا من المنهج! ولذلك يتعين الحد من التلقين والاعتماد على تنمية مهارات الطلبة، وتعزيز التفكير النقدي والتحليلي والتفاعلي، من خلال تطوير المناهج وفق رؤية تضع تغذية عقلية الطالب بالمعلومات المُفيدة وليس مجرد حشوها!

ومن جهة ثانية، يجب تقليص عدد المواد في الصفوف 10 و11 و12 لتكون فقط 5 مواد، تتماشى مع توجهات الطالب وما ينوي الالتحاق به في المرحلة الجامعية.

  1. التوسع في استخدام التقنيات الحديثة.. لقد برهنت السنوات القليلة الماضية أهمية توظيف التقنيات الحديثة في التعليم؛ إذ لم تعد منظومة التعليم مجرد كتابٍ مدرسي ومُعلم يشرح على السبورة داخل الفصل الدراسي؛ بل توسّعت لتعتمد بصورة كبيرة على التقنيات الحديثة، ومنها أهمية استخدام الإنترنت والاستفادة من الميزات البحثية التي يوفرها، والكم الهائل من المعلومات التي يُمكن أن تُعزز معارف الطلبة وتُنمي مهاراتهم. لذلك لا مفر من توظيف جميع التقنيات الحديثة في التعليم، بدءًا من استخدام الأجهزة اللوحية إلى جانب الكتاب المدرسي، وصولًا إلى توظيف أدوات الذكاء الاصطناعي وتوعية الطلبة بالاستخدام الأمثل والآمن والأمين لهذه الأدوات.
  2. تأهيل وتطوير المُعلمين.. تمثل عملية تأهيل المُعلِّم وتطويره ضرورة لا ينبغي التراجع عنها أو التهاون في تنفيذها؛ لأنَّ المعارف والعلوم تتطور من حولنا، وعدم إلمام المُعلِّم بهذه التطورات يجعله في مؤخرة الصفوف. ونظرًا لأنَّ المُعلِّم هو جوهر المنظومة التعليمية، فقد وجب توفير البيئة الملائمة لتطوُّره من خلال توفير الدورات التدريبية وتقديم الحوافز من أجل حضورها، علاوة على مُساعدة المُعلِّم على تلقي ما يحتاج من مهارات عبر التدريب والتأهيل، على أن تدعم الدولة هذه المساعي، وإن كانت مُنفردة.
  3. التوسع في التعليم المهني والتقني: خيرًا فعلت وزارة التربية والتعليم خلال العام الدراسي المنصرم، عندما بدأت في تطبيق التعليم المهني والتقني وفق أفضل المُمارسات الدولية، لكننا نأمل أن تتوسع الوزارة كل عام تدريجيًا في هذا الجانب، من خلال تشجيع المزيد من الطلبة على أن يسلكوا هذا المسار، ونُريد أن نرى المئات والآلاف من أبنائنا الطلبة مُتسلحين بمهارات مهنية وتقنية، تُمكِّنهم من خوض غمار العمل بعد الانتهاء من دراسة الدبلوم، فهؤلاء سيكونون عصبًا أساسيًا في مسيرة التنمية، وتوطين الكثير من الوظائف التي يشغلها الكثير من غير العُمانيين، وأكثرهم لا يملكون الحد الأدنى من المهارات، ولم يتلقوا تعليمًا مُتخصصًا في هذا الجانب. لذلك نأمل من الوزارة زيادة أعداد المدارس المهنية والتقنية وعدم الاكتفاء بالعدد المحدود جدًا من المدارس القائمة حاليًا، لأنَّ طريق المستقبل سيكون مفروشًا بالورود لهؤلاء الطلبة الذين سيتخرجون من هذه المدارس، ولا نُريد أن نُهدر المزيد من الفرص ولا السنوات.
  4. الابتكار والبُعد عن التقليدية.. من الأمور البالغة الأهمية التي يتعين على القائمين على ملف التعليم اتباعها، مسألة طرح أفكار إبداعية لتطوير التعليم وتنفيذ خطط عمل غير تقليدية من أجل تهيئة أبنائنا لسوق العمل، ومن بين الأفكار التي نراها في دول أخرى وتُساعد الطلبة على تطوير مهاراتهم والاستعداد لسوق العمل أو الدراسة الجامعية بصورة مختلفة، فكرة "سنة الاستراحة" أو "سنة الفجوة"، وهي سنة مُستقطعة من عُمر الطالب، وتمثل مرحلة فاصلة بين التعليم المدرسي والتعليم الجامعي، فبدلًا من أن ينتقل الطالب من المدرسة إلى الجامعة في غمضة عين، يتوقف الطالب (ويكون عندها في نهاية مرحلة المُراهقة) لمدة سنة ليأخذ نفسًا عميقًا قبل الالتحاق بالجامعة، وخلال هذه السنة يمارس أعمالًا حياتية ويتعلم مهارات وربما تُتاح له فرصة أكبر للتعرف على مُتطلبات سوق العمل ومن ثم اختيار التخصص الدراسي الذي يتواءم ويتناسب مع قدراته ومهاراته التي تعرّف عليها خلال هذه السنة. مثل هذه الفكرة غير التقليدية تُتيح للطالب الفرصة من أجل أن يرسم مسار حياته بعناية وتروٍ، بدلًا من العجلة التي تحدث أثناء تقديم الطالب عبر "القبول الموحد"، وحالة عدم الاتزان وتراجع الثقة التي قد تُلازم الكثير من الطلاب في السنة الأولى من الدراسة الجامعية.

وكذلك قضية الاستغلال الأمثل للإجازة الصيفية، ونقترح هنا التوسع في برنامج الانضباط العسكري غير الإجباري، لا سيما للطلبة في الصفوف الأخيرة، لأنَّ الكثير من أبنائنا الطلبة لا يتحلون بالانضباط الكافي الذي يساعدهم على خوض غمار الحياة العملية وتحقيق النجاحات المأمولة.

  1. العدالة في توفير المقاعد الجامعية. رغم أنَّ هذا الجانب لا يرتبط مباشرة بقضية التعليم المدرسي، إلّا أن له مردود سلبي على الكثيرين؛ إذ من بين التحديات التي يواجهها أبناؤنا عدم تكافؤ الفرص بين البنين والبنات من خريجي الدبلوم العام؛ حيث تُتاح الكثير من التخصصات للطلبة الذكور بدرجات ومعدلات أقل عن الطلبة الإناث، وهذا يتعارض مع أبسط قواعد العدالة وعدم التمييز على أساس الجنس أو النوع، كما ينص النظام الأساسي للدولة والقوانين المُنظّمة. لهذا نأمل أن تتراجع الجهة المعنية عن مثل هذه القواعد غير العادلة وأن تُتاح الفرص بالتساوي بين الذكور والإناث، حتى ولو كان عدد الإناث الحاصلات على درجات مرتفعة، أعلى من الذكور، ففي النهاية كلاهما اجتهد وذاكر وتفوّق وحصل على هذا المعدل الدراسي.

لا ريب أنَّ التعليم يمثل أولوية وطنية تدعم النمو ومسيرة التنمية، وعلى مؤسسات الدولة المعنية أن تواصل عملية التطوير والتحديث، وتعمل بكل جهد على معالجة الاختلالات والسلبيات، وزيادة الإيجابيات، وتوفير فرص تعليم عادلة للجميع، والعمل على تطوير المنظومة التعليمية، ليس فقط من خلال بناء المدارس والمباني التعليمية- وهو أمر واجب وضروري- لكن أيضًا من خلال بناء المُعلِّم المُتمرِّس، المالك لكل المهارات المطلوبة لنقل المعلومة إلى الطلبة بالطريقة المُثلى دون تعقيد.

ويبقى القول.. إنَّ التعليم وتطويره ليس مجرد قضية تنموية؛ بل قضية وجودية وأمن قومي؛ إذ بالتعليم يتقدم الوطن ويزدهر ويتطور، وبالتعليم ينبُغ أبناؤنا ويتميَّزون، وبالتعليم يعلو اسم عُمان بين الأمم، فيخرج لنا الأطباء والمُفكرين والأدباء والمهندسين والعلماء والدبلوماسيين ورجال الأمن والجيش، وكل المهن والتخصصات التي تقود الوطن إلى مرافئ الازدهار والاستقرار، فالتعليم التعليم التعليم، لا بديل لنا عنه لكي نُنافس الأمم ونكتب اسم عُمان بحروف من ذهب في سماء الحضارة الإنسانية، ويظل محفورًا على جدران التاريخ إلى الأبد.