السلام المزعوم!

 

حاتم الطائي

 

انعدام الطعام والشراب والإمدادات الطبية ليس سوى نقطة في بحر المُعاناة التاريخية لأهل غزة

المُمطالة في المفاوضات تمنح الاحتلال المزيد من الوقت لإبادة الشعب الفلسطيني

إسرائيل تتلاعب بالجميع.. ونتنياهو يحاول الهروب إلى الأمام وتفادي محاكمته

 

 

ما تزال القوى الدولية تمنح الاحتلال الإسرائيلي المُجرم العديد من الفرص لمواصلة حرب الإبادة بحق الشعب الفلسطيني الأعزل، ومواصلة المُؤامرة الدنيئة لتهجيره من أرضه، ومنح الكيان الغاصب مزيدًا من الأراضي، وسط خذلان مُريب على المستويات كافةً، على الرغم من التحذيرات الإقليمية من مغبة تصفية القضية الفلسطينية، ودفع المنطقة نحو أتون حرب مُستعرة لن تُبقي ولن تذر!

وبعد ما يزيد عن 10 أشهر، يُواصل جيش الإجرام الصهيوني القصف والتدمير وقتل من تبقى من أبناء الشعب الفلسطيني العُزَّل في قطاع غزة، ومُواصلة الهجمات على الضفة الغربية المُحتلة وتنفيذ عمليات اعتقال مُمنهجة ومصادرة أراضٍ والتوسع في بناء المُستوطنات، في أسوأ عمليات اغتصاب للأراضي في التاريخ، ما يُؤكد أننا لسنا فقط أمام قوة احتلال مُجرمة تُعربد كيفما تشاء دون خوف من حساب أو عقاب؛ بل نحن أمام زُمرة من أخطر عصابات المافيا، التي تستبيح كل شيء من أجل تحقيق أهدافها الشيطانية؛ فجرائم القتل والتدمير واعتقال الأبرياء وتعذيبهم؛ بل واغتصابهم وتصوير مشاهد الاغتصاب وشرعنتها من قِبل المُحتل، ليست سوى جزء يسير مما يصل إلينا من معلومات حول الأوضاع الكارثية التي يحياها الشعب الفلسطيني المُستضعَف؛ إذ إنَّ انعدام الطعام والشراب والإمدادات الطبية ما هي إلّا نقطة في بحر المُعاناة التاريخية التي يئن تحت وطأتها الأشقاء الفلسطينيون على مدى أكثر من 316 يومًا، عصفت بهم خلالها أشد ظروف الطقس المُتقلِّب، من برد قارس وأمطار غزيرة وسيول، وحرٌّ حارق، كُل ذلك وهم يفترشون الأرض، لا منازل تأويهم، ولا ملجأ يحتمون به من القصف العنيف.

وفي ظل هذه المآسي غير المسبوقة التي يتجرع مرارتها الشعب الفلسطيني كل لحظة، يسعى الوسطاء إلى تنفيذ اتفاق لوقف إطلاق النَّار، وإنهاء هذه التراجيديا التاريخية، لكن في المقابل يُمعن المحتل الغاصب بقيادة مُجرم الحرب نتنياهو في التسويف ووضع العراقيل واحدة تلو الأخرى، وإضافة شروط أقل ما توصف به أنها مُذلة وتعكس شعورًا زائفًا بأنَّ له اليد العُليا في هذا العدوان الغاشم، رغم ما يتلقاه جيشه المُجرم من هزائم متتالية بأيدي المُقاومة الباسلة ورجالها الأشداء.

من المؤسف القول إنَّ ماراثون المفاوضات لم يُسفر عن شيء سوى منح الاحتلال المزيد من الوقت لإبادة الشعب الفلسطيني، من خلال إيهام المجتمع الدولي بأنَّ ثمّة مفاوضات تجري على الأرض، بينما يتعنت الطرف الإسرائيلي بكل ما أوتي من جبروت وخسّة ونذالة، تعكس نفسيته المريضة التي تقتات على أرواح الشهداء ودماء المصابين وآلام الثكالى والأيتام. فكيف بدولة احتلال تؤمن بالمفاوضات أو السلام بينما جيشها أو بالأحرى عصابتها المُسلّحة تمارس القتل في أبشع صوره، حتى الحيوانات لم تسلم من نيران هذا الجيش! وكيف بمُجرم حرب أن يقبل وقفًا لإطلاق النَّار في حين أنه فشل في تحقيق أي من أهدافه التي زعم أنَّه يسعى إليها في هذا العدوان؟!

علاوة على أنَّ مواصلة هذه المفاوضات تخدم الطرف الإسرائيلي وداعميه، وعلى رأسهم الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية، في محاولة لثني إيران عن الرد على اغتيال الشهيد إسماعيل هنية على الأراضي الإيرانية، ومن ثم كسب الوقت لإرسال المزيد من القوات والمعدات العسكرية إلى الشرق الأوسط استعدادًا للدفاع عن إسرائيل في حال تعرضها لضربة إيرانية مُتوقَّعة. وبدلًا من أن تُمارس الولايات المتحدة الضغوط على حليفتها إسرائيل لوقف الحرب وإنهاء جريمة الإبادة الجماعية، فإنها تُواصل تأجيج التوترات في الشرق الأوسط، بإعلانها عسكرة الممرات الملاحية بدءًا بمضيقيْ هُرمز وباب المندب مرورًا بالبحر الأحمر وليس انتهاءً بالبحر الأبيض المتوسط؛ إذ تتمركز في المنطقة غواصات نووية وحاملات طائرات وسفن وبوراج حربية عملاقة. وفي المقابل، نجد إيران تحتكم إلى صوت العقل والسلام، مع إعلانها إمكانية عدم الرد على عملية اغتيال هنية على أراضيها، إذا ما توصلت المفاوضات إلى اتفاق لوقف إطلاق النَّار وتبادل الأسرى وإعادة إعمار قطاع غزة المنكوب.

لكننا عندما نُحلل عملية سير هذه المفاوضات، نجد أنَّ الطرف الإسرائيلي يتلاعب بالجميع بما فيهم الولايات المتحدة، ولا يُبدي أي جدية أو صدق نية تعكس رغبته في وقف إطلاق النار وإبرام صفقة تبادل للأسرى؛ سواء من خلال المُماطلة في المفاوضات أو إرسال وفد منخفض التمثيل، أو حتى الزعم بأنَّه يجب ممارسة الضغوط على حركة حماس لقبول المقترح الأمريكي، في حين أنَّ الواقع يؤكد أن "حماس" طالبت وقبل أيام من انعقاد المباحثات الأخيرة في الدوحة، بتنفيذ المقترح الأمريكي، بل وإلزام الطرف الإسرائيلي به. ومثل هذه الألاعيب الإسرائيلية ليست غريبة أو جديدة؛ إذ يحترف الطرف الإسرائيلي المراوغة والكذب والتضليل، وإيهام الرأي العام العالمي بأنَّ المُعضلة لدى حماس وليس لديه هو، رغم أنَّه في كل مرة يُضيف شروطًا تنسف الاتفاق من أساسه، ومع ذلك يُبدي المفاوض الفلسطيني مرونة وتساهلًا في المفاوضات، من أجل وقف إراقة الدماء الفلسطينية الطاهرة.

ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، يبدو أنَّ المرشحين الديمقراطي كامالا هاريس ومنافسها الجمهوري دونالد ترامب يسعيان لاستمالة اللوبي الصهيوني والأصوات اليهودية المؤثرة في هذه الانتخابات، وقد بدأت الوعود الانتخابية تطفو على السطح، بعد إعلان ترامب في مؤتمر للناخبين اليهود، عن تفكيره في "توسيع مساحة إسرائيل"، مُبررًا ذلك بأنَّه عندما ينظر إلى الخريطة يجد أن إسرائيل "مساحتها صغيرة". ورغم ضبابية هذا التصريح إلّا أنه يكشف عن رغبة في "زيادة مساحة إسرائيل"؛ ولنا أن نتوقع كيف يُمكن أن يحدث ذلك، خاصةً وأن ترامب في ولايته الأولى اعترف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، كما اعترف ترامب بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان السورية المحتلة، فهل يعترف ترامب بسيادة إسرائيل على الضفة الغربية وغزة؛ أي كامل فلسطين التاريخية، ومن ثمَّ يُصفي القضية الفلسطينية ويئد حل الدولتين ويقضي على كل آمال الشعب الفلسطيني؟ هذا سؤال مفتوح لن نحصل على إجابة له إلّا لو فاز ترامب بالانتخابات وعاد إلى البيت الأبيض!

المؤكد لنا الآن أنَّ الاحتلال لا يُريد مفاوضات ولا تبادُّل الأسرى، لأنَّ ذلك يعني إنهاء الحرب ومن ثم مُحاسبة نتنياهو أولًا على فساده الداخلي المؤجل من 7 أكتوبر، وثانيًا على تسببه في "طوفان الأقصى" ومقتل أكثر من 1200 في يوم واحد، علاوةً على مقتل نحو 700 جندي إسرائيلي، وإصابة ما يزيد عن 10 آلاف عسكري إسرائيلي، ولعل الرقم الحقيقي أكبر من ذلك بكثير في ظل الانتصارات المتتالية التي تُحرزها المقاومة وتُكبِّد الاحتلال خسائر هائلة في الأرواح والعتاد. وفي المقابل، تريد أمريكا إنهاء الحرب بما يضمن عدم محاكمة إسرائيل أمام المحاكم الدولية وتوفير أكبر حماية عسكرية مُمكنة من عمليات المقاومة في مختلف محاورها في لبنان أو اليمن إضافة إلى الجهد الكبير للمقاومة في غزة.

ويبقى القول.. إنَّ أي مباحثات لوقف إطلاق النار لا تضمن منع إسرائيل من استئناف عدوانها الغاشم على القطاع، أو لا تشمل الاتفاق على تبادل الأسرى وضمان عدم اعتقالهم مُجددًا، أو لا تنُص على إعادة إعمار غزة وتعويض المدنيين عمّا فقدوه، فهي محض هراء ولا قيمة لها، وتمثل استنزافًا للوقت لتمكين الاحتلال من مواصلة الإبادة الجماعية، ومحاولة تنفيذ مُخطط التهجير، ومن ثم تصفية القضية الفلسيطينية؛ لكننا نقول بإيمانٍ صادقٍ: "وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ".