كشف الستار عن حالة ظَفَارِ للشيخ عيسى الطائي قاضي قضاة مسقط (15)

 

ناصر أبوعون

 

يقول الشَّيخُ القاضِي الأجَلّ عِيَسى بِنْ صَالِحٍ بِنْ عَامِرٍ الطَّائِيُّ: [وَقَبَائِلُ ظَفَارِ قَالَ اِبْنُ بَطُّوطَةَ أَصْلُهُمْ مِنْ حِمْيَرَ، وَلَا يَبْعُدُ ذَلِكَ. وَسَوْفَ نَذْكُرُ مَنْ اِنْتَابَ ظَفَارِ مِنَ الْمُلُوْكِ فِيْمَا تَنَاهَى إِلَيْنَا؛ وَإِنْ كُنَّا لَمْ نَقِفْ عَلَى تَارِيْخٍ عَرَبِيٍّ مُسْتَوْعِبٍ جَامِعٍ لِحَالَةِ ظَفَارِ حَتَّى نَقْتَطِفَ مِنْهُ مَا يُفِيْدُ الْقَارِيءَ فَائِدَةً لَا يَحْتَاجُ بَعْدَهَا إِلَى بَحْث. قَالَ يَاقُوتُ الْحَمَوِيّ فِي كِتَابِهِ (مُعْجَمُ الْبُلْدَانِ): إِنَّ لَفْظَةَ ظَفَاِر تُطْلَقَ عَلَى سَاحِلٍ بَيْنَ عُمَانَ وَحَضْرَمَوتَ وَعَلَى مَوضِعٍ بَالْيَمَنِ قَرِيْبًا مِنْ صَنْعَاءَ كَانَ بِهِ غَمَدانُ قَصْرُ سَيْفٍ بِنْ ذِي يَزَنَ الَّذِي دَعَى عَلَيِهِ الرَّسُولُ – عَلَيِهِ السَّلامُ – فَتَدَاعَتْ أَرْكَانُهُ، وَبِهَا قُبُورُ مُلُوكِ حِمْيَرَ. قَالَ الشَّاعِرُ فِي ذِلِكَ:

يَومَ سُئلت عن ظفار قيل لمن

أنتِ فقالت: لحمير الأخيار

ثم سئلت من بعد ذاك

فقالت: إنّ ملكي للأخنس الفجار

وَقَدْ سَهَى مَنْ ظَنَّ (ظَفارِ) مَسْكَنُ (التَّتَابِعَةِ) هَذِهِ، ووَهِمَ أَيْضًا مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَهَالِي ظَفارِ مِنْ نَسْلِ (طَسَم) و(جَدِيس)؛ لأنَّ هاتين القبيلتين قَدْ بَادَتَا أَصْلًا، وإنْ كَانَ مَسْكَنُهُمَا بِهِذِهِ الْبِقَاعِ، كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْمُؤَرِخِين؛ لأنَّ جَدِيْسًا قَتَلَتْ طَسَمًا، وَلَم تُغَادِرْ أَحَدًا مِنْهَا. فَجَاءَ الْمَلِكُ حَسَّانُ بنُ أَسْعَدَ الْكَامِلُ الْحِمْيَرِيّ فَقَتَلَ جَدِيْسًا وَاسْتَأْصَلَ شَأْفَتَهَا. ونَهَاهُ وُزَرَاؤُهُ أَنْ يَفْعَلَ فَأَبَى إِلَّا ذَاكَ. قال أبو تمام الطائيّ مخاطبا ربع أحبابه:

حتى كأن (أُمَيم) كانوا سكنا

بكر و(العماليق) الأولى و(جَدِيسَا)

*****

الْعَرَنْجَج المُتوّج بالذَّهب

يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(وَقَبَائِلُ ظَفَارِ قَالَ اِبْنُ بَطُّوطَةَ أَصْلُهُمْ مِنْ حِمْيَرَ، وَلَا يَبْعُدُ ذَلِكَ)]

 [(حِمْيَر)].. قال بعضهم إنّ اسمه (الْعَرَنْجَج)، و[في اللغة: اِعْرَنْجَج في الأمر: إذا جَدَّ فيه]، وإنّه لُقِّبَ بـ(حِمير) لكثرة لبسه الثياب الحُمْر، وكان يكتب بخط (المسند) على سلاحه وعلى الجبال التي يمرّ بها. قال صاحب التيجان: ثُمَّ حوله إلى (الخط الحميريّ) المنسوب إليه، "حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان؛ جدٌّ جاهليٌّ قديم، مَلَكَ اليمنَ، وإليه نِسْبة الحميريين (ملوك اليمن وأقياله)، حَكَمَ بعد أبيه (سبأ)، وعاصمة مُلكه (صنعاء)، غزا وافتتح حتى بلغ بلاد الصين. قال الهمدانيّ: وكانت مدة مُلْك الدولة الحميرية 2081 سنة. لكنْ لم يصل التنقيب عن الآثار حتى الآن إلى التاريخ الصحيح لقيام الدولة الحميرية، والمشتغلون بهذا العلم واقفون عند رأي (إدوارد جلازر): بأن قيامها كان سنة 115 ق.م. وحِمْير أول ملكٍ من تتوّج بالذهب، ومن وقائعه قتال قبائل ثمود ففرقها وارتحلت إلى الحجاز وعاش خمسين سنة بعد أبيه (سبأ) وكان له خمسة أولاد (مالك وعامر وعمرو وسعد ووائل)، ولمّا حان موته. قال لبنيه: إني لأجد ثقل الثرى وعمّ الضريح فاجعلوا لي نَفَقًا في هذا الجبل – جبل عيفر – وأجلسوني فيه، ففعلوا به ذلك؛ فهو -على رواية وهب بن منبّه – أول من جُعِل في مغارة. وقد وُضعت معه في تلك المغارة أدراعه أَنَفَةً من أن يلبسها بعدَه غيرُه"(01)

***

ظَفار العُمانيّة وظُفار اليمنيّة

يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(ظُفار مَوضِعٍ بَالْيَمَنِ قَرِيْبًا مِنْ صَنْعَاءَ كَانَ بِهِ غَمَدانُ قَصْرُ سَيْفٍ بِنْ ذِي يَزَنَ)].

 [(ظَفارِ)]و[(ظُفارِ)].. في المقاطع الأولى من مخطوطة (كشف الستار عن حالة ظَفَارِ)؛ أسهب الشيخ عيسى الطائي في الأدلة اللغوية والتاريخية والجغرافيّة للتفرقة بين (ظُفَار بضم الظاء المُعجمة) وذكر أنَّها موضعٌ باليمن، بينما (ظَفَار بفتح الظاء المُعجمة) هي إقليمٌ عُمانيّ يُطلق على المنطقة الجغرافيّة الساحلية ما بين عُمان وحضرموت؛ وهذا قولٌ أجمع عليه سائر الجغرافيين المحدثين والأقدمين من العرب والمستشرقين، ودوّنوه في كتاباتهم ولاجدال فيه، ومن ثَمَّ تتبّعنا هذه الفروقات العقلية والنقلية فيما وقع بين أيدينا من دراسات تاريخية حديثة، ومخطوطات قديمة مُحققة علميًا ومنهجيًا أسهبت في التفرقة بين إقليم (ظَفار) في عُمان، ومدينة (ظُفار) في بلاد اليمن.

غُمدان وسيف بن ذي يزن

[(غُمدان)].. قصر يمنيّ "أوّل من ابتدأ في بنائه سام بن نوح -عليه السلام- لمّا بَنَى صنعاء، ويُقال: بناه سليمان بن داود - عليهما السلام - لمّا دخل اليمن وتزوج بلقيس. وكانت (التتبابعة) من ملوك اليمن لهم رغبة نفيسة وهِمَّة عالية في عمارته وكل ملك تولّى منهم كان يُعْلي قصرًا على قصر حتى ارتفعت تلك القصور اثنين وسبعين سقفا، ويُقال: ثلاثة وتسعين سقفا. وآخر مَنْ بَنَى به (أسعد الكامل)، ويقال (أسعد الخزاعي) قصرًا من الزجاج وهو الخاتمة([[1]])" وإنّ أقدم ذكر لقصر غمدان في النقوش ورد في نقش(نامي 12)؛ دوّنه الملك السبئيّ (شعر أوتر) نحو 220 للميلاد؛ وذكر لنا هذا النقش قصرين سبئيين هما: (سلحين) في مأرب، و(غمدان) في صنعاء، وكان غمدان مقرًا للملوك السبئيين من قبيلة (ذي جُرّه) التي كان مركزها مدينة (نِعض) قرب جبل (كنن) المجاور لقاع صنعاء. ويتكرر ذكر القصرين (سلحين وغمدان) في نقشٍ يعود إلى منتصف القرن الثالث الميلاديّ في عهد الملك (إليشرح يحضب) وأخوه (يأزل بيِّن)، وقد وردت (غُمدان) في النقشين مكتوبة بالنون؛ هكذا (غندان). ويذكر الهمدانيّ في الإكليل: أنَّ القصر أُقيم في جنوب (النعيم) بسفح جبل (نُقُم) على حرّة غمدان؛ وكان عشرين سقفا بعضها على بعض، وكان فيما بين كل سقفين عشرة أذرع، ويلف السقفين حزامٌ مزخرفٌ، وأنّ حجارته كانت متلاحكة بالقطر (مترابطة بالمعدن المذاب)، وفي مدخله ساعة مائية، وفي أعلاه غرفة سقفها رخام شفَّاف يُفرِّق الناظر منها بين (الحدأة) و(الغراب) وعلى جوانبها أربعة أسود من النحاس مجوفّة فإذا هبّت الريح سُمعَ لها زئير كزئير الأسد"([[2]])

***

خبرٌ نَبَويٌّ لا أصل له ولا سند

يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(غَمَدانُ قَصْرُ سَيْفٍ بِنْ ذِي يَزَنَ الَّذِي دَعَى عَلَيِهِ الرَّسُولُ – عَلَيِهِ السَّلامُ – فَتَدَاعَتْ أَرْكَانُهُ)].

وقول الطائيّ: [(دَعَى عَلَيِهِ الرَّسُولُ)]، وفيه أيضًا ذكر لنا كتاب (شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم)، بتحقيق د حسين بن عبد الله العمري "أن البناء الذي ذكره الله سبحانه وتعالى بقوله:{لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(04)؛ هو قصر غمدان". "وأنه عندما نزلت هذه الآية أرسل النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - فروة بن مسيك المرادي ليهدمه، فلمَّا أراد هدمه لم يقدر عليه حتى أحرقه بالنار، ولم يُهدَم الا بعد وفاة الرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم(05). وهذه القصة ليس لها إسناد البتَّة، ولم تُحَدِّثْ بها سائرُ الأسانيد والكُتب الصِّحاح، ولم ترد نصًّا ولا لفظًا ولا معنى في مُسند الإمام الربيع بن حبيب، ولا مرويّات جابر بن زيد. قال الإمام (الطبري): إنّ البناء المقصود في الآية هو مسجد(الضرار والمنافقين) [تفسير ابن أبي حاتم (رقم/10060)]، ووافقه عليه (الزمخشري). ومن أعاجيب المرويّات عن قصر غمدان التي لا سند عقليٍّ أو نقليٍّ لها ما جاء في مجلة الرسالة القديمة تحت عنوان: (من كتاب قصور العرب: غُمدان) رصْدٌ لهذه التُّرّهات(06)؛ قيل "هُدمَ قصر غمدان في أيام الخليفة الثالث عثمان بن عفان – رضي الله عنه –"(07)؛ فقيل له: إنّ كُهان اليمن يزعمون أنّ الذي يهدمه يُقتل؛ فأمر بإعادة بنائه، فقيل له: لو أنفقت عليه خراج الأرض ما أعدته كما كان فتركه، وقيل أيضا وُجِدَا على خشبة لما خُرِّبَ وهُدِمَ مكتوب برصاص مصبوب:(اِسْلَمْ غمدان، هَادِمُكَ مَقْتُولٌ)؛ فهدمه عُثمان – رضي الله عنه – فقُتِلَ(08)، وهناك وجهٌ آخر للقصة؛ قال فيه ابن الكلبيّ: كان على كل رُكنٍ منْ أركانِ غمدان مكتوبٌ عليه: (مُعَاديكَ مَقْتولٌ بِسَيفِ العُدوانِ)(09)

***

قبور ملوك حِمْير فرادةٌ مِعْماريّة

يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(ظُفار اليمن وَبِهَا قُبُورُ مُلُوكِ حِمْيَرَ)].

ومكان هذه المقابر في وادي (العُوار) عند السفح الغربيّ لجبل (العُصبي) حيث توجد ثلاثة مدافن في صف واحد وتفصلها أمتار قليلة عن بعضها، وعلى بُعد 600 متر شمال (العُوار) يوجد مدفن كبير يصل طوله من الداخل 8 أمتار، ويتوقع وجود ممر يربطها ببعضها حيث يحتوي أحد المدافن الملكية على حيلة ساذجة للتمويه على اللصوص، كما يوجد درج يؤدي إلى نهاية مسدودة، ويقع المدخل الفعلي لغرفة الدفن على ارتفاع يقارب المترين من قاع المدفن، وتجد عند السفح الجنوبيّ لحصن ريدان غرفة تحت الأرض تعكس فرادة في الحجم والشكل وبراعة في الهندسة بطولها البالغ 15 مترا. وعُثِرَ على رواق ضيق مع ضفتين في الجانبين ومجموعة من الغرف الاسطوانية لتخزين أمتعة الميت وتوجد في آخر الطرف الشماليّ للرواق مقابل درج المدخل غرفةٌ واسعة عرضها 2.5 بالإضافة إلى متراس حجريّ ثقيل يفصلها عن بقية المدفن. وفي داخل الرواق يوجد نقش يصوِّرُ (مَاعِزَيْنِ بَرِّيَين) على حجرين يرجعان إلى ما قبل 380 م. ومن الظاهر أن مراسم الدفن تشمل دفن الميت وهو يرتدي أرقى الملابس وتُدفن معه أغراض شخصية ومجوهرات وأسلحة وأوانٍ فخارية"(10). و"من بطون حِمير: (السكاسك، وقيل هم من كندة) و(الشعبيون)، و(بنو الريان) و(قضاعة) و(عبد شمس)، و"من ملوكهم (التتابعة، والأذواء، والأقيال)؛ ورصد لنا كتاب [طرفة الأصحاب] سلسلة ملوك حِمْير الأوائل نوجزها فيما يلي: (مَلَكَ بعد (حِمْير) ابنه (الهميع)، فابن هذا (أيمن)، فابنه (زهير)، فابنه (عَريب)، فابنه (جيدان)، فأخوه (قَطَن بن عَريب)، فـ(الغوث بن جيدان)، فابنه (وائل)، فابنه (عبد شمس)، فابنه (الصُّور)، فابنه (ذو يَقْدُم)، فـ(ذو أبين)، فـ(الملطاط)؛ [وهو في لغتهم: العالي]، فابنه (شَدَر)، فابنه (وتار)، [ومنه سُميت (وتارة)]"(11).

***

مقطع من الزَّبور على قبر هود

يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: قَالَ الشَّاعِرُ فِي ذِلِكَ:

يَومَ سُئلت عن ظفار قيل لمن

أنتِ فقالت: لحمير الأخيار

ثم سئلت من بعد ذاك

فقالت:إنّ ملكي للأخنس الفجار

وفي هذه الأبيات التي أوردها شيخنا الطائيّ تصحيف لرواية ابن كثير نظنه وقع للاختصار أو من الناسخ. "قال ابن إسحاق: وكان في حجر باليمن فيما يزعمون كتاب بـ(الزبور) كُتِبَ في الزمان الأول: لمن ملك ذمار؟ لحمير الأخيار لمن ملك ذمار؟ للحبشة الأشرار لمن ملك ذمار؟ لفارس الأحرار لمن ملك ذمار؟ لقريش التجار". وقد نظم بعض الشعراء هذا المعنى؛ فيما رواه المسعوديّ في مروجِه، يقول: "وقد كانت ملوك اليمن تنزل بمدينة (ظُفار) مثل (آل ذي سحر)، و(آل ذي الكلاع)، و(آل ذي أصبح)، و(آل ذي يزن)، إلا اليسير منهم فإنهم نزلوا غيرها وكان على باب (ظفار) مكتوب بالقلم الأسود(12):

يومَ شِيدتْ ظُفَارِ قيلَ: لمَنْ أنـ

ت؟ فقالتْ: لحِمْيَرَ الأخيارِ

ثم سِيلَتْ: مَنْ بعد ذاك؟ فقالت:

إنّ مُلكِي للأحْبُش الأشرارِ

ثم سِيلَتْ: مَنْ بعد ذاك؟ فقالت:

إنّ مُلكي لفارسِ الأحرارِ

ثم سِيلَتْ:ما بعد ذاك؟ فقالت:

إنّ مُلكي إلى قريش التِّجارِ

ثم سِيلَتْ:ما بعد ذاك؟ فقالت:

إنّ مُلكي لحمير وصُحَارِ

وقليلًا ما يلبَثُ القومُ فيها

منذُ شِيْدَت مَشِيدُها للبَوارِ

من أُسودٍ يُلقيهمُ البحرُ فيها

تُشعِلُ النارَ في أعالي الديارِ

ويقال إن هذا الكلام الذي ذكره محمد بن إسحاق وُجِد مكتوبا عند قبر هود عليه السلام حين كشفت الريح عن قبره بأرض اليمن، وذلك قبل زمن بلقيس بيسير في أيام (مالك بن ذي المنار) أخي (عمرو ذي الأذعار بن ذي المنار)، ويقال: كان مكتوبا على (منبر هود) أيضا وهو من كلامه - عليه السلام- وهو ما حكاه السهيليّ. والله أعلم"(13).

التتابعة لم يسكنوا ظَفار العُمانيّة

- قال الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(وَقَدْ سَهَى مَنْ ظَنَّ (ظَفارِ) مَسْكَنُ (التَّتَابِعَةِ) هَذِهِ)]

في هذا المقطع أيضًا يواصل الشيخ عيسى الطائي التأصيل للفروقات بين (ظَفار- بالظاء المعجمة المفتوحة) العُمانية و(ظُفار- بالظاء المعجمة المضمومة) اليمنية بنفي أي وجود للملوك (التتابعة) في أرضِ عُمان."قال السهيليّ: معنى تُبّع الملك المتبع. وقال صاحب المحكم: التبابعة ملوك اليمن وأحدهم تبّع لأنّهم يتبع بعضهم بعضا كلما هلك واحد قام آخر تابعا له في سيرته، وزادوا الباء في التبابعة لإرادة النسب. قال الزمخشريّ: قيل لملوك اليمن التبابعة لأنّهم يتبعون، كما قيل الأقيال لأنهم يتقيلون. قال المسعودي: ولم يكونوا يسمون الملك منهم تبّعا حتى يملك اليمن والشحر وحضرموت، وقيل حتى يتبعه بنو جشم بن عبد شمس، ومن لم يكن له شيء من الأمرين فيسمى ملكا ولا يقال له تبّع.وأول ملوك التبابعة باتفاق من المؤرّخين، الحارث الرائش وقد ملك 125 سنة ثم ملك بعده ابنه أبرهة ذو المنار 180 سنة، ثم ملك من بعده أفريقش بن أبرهة 160، ثم ملك من بعد أفريقش أخوه العبد بن أبرهة، وهو ذو الأذعار 25 سنة، وكان على عهد سليمان بن داود وقبله بقليل، وغزا ديار المغرب، وملك من بعده الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو بن ذي الأذعار وهو ذو الصرح ست سنوات أو عشرا، وملكت بعده ابنته بلقيس سبع سنين، وتزوجت سليمان فسلمته الملك 24 سنة ثم ملك التتابعة ناشر بن عمرو ذي الأذعار، ويعرف بناشر النعم، ثم ملك بعد ياسر هذا ابنه شمر مرعش وفتح مدنا كثيرة منها بلاد الروم وملك سمرقند التي سميت باسمه، ثم ملك على التبابعة بعد شمر مرعش ابنه (تبّع الأقرن) واسمه زيد، ثم ملك من بعده ابنه ملكيكرب، وملك بعده ابنه تبان أسعد أبو كرب، ويقال هو تبّع الآخر وهو المشهور من ملوك التبابعة"(14).

العُمانيون ليسوا أحفاد طسم وجديس

يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(ووَهِمَ أَيْضًا مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَهَالِي ظَفارِ مِنْ نَسْلِ (طَسَم) و(جَدِيس)؛ لأنَّ هاتين القبيلتين قَدْ بَادَتَا أَصْلًا، وإنْ كَانَ مَسْكَنُهُمَا بِهِذِهِ الْبِقَاعِ، كَمَا زَعَمَ بَعْضُ الْمُؤَرِخِين؛ لأنَّ جَدِيْسًا قَتَلَتْ طَسَمًا، وَلَم تُغَادِرْ أَحَدًا مِنْهَا)].

ينفي الشيخ عيسى الطائي نفيًا قاطعًا - ما وقع فيه المؤرخون القدماء ومن لَفَّ لَفَّهُمْ من المحدثين- انتسابَ العُمانيين لقبيلتي (طَسَم) و(جَدِيس).وقد وجدنا" الأخباريين ينسبون "طسم وجديس" إلى "لاوذ بن إرم بن سام بن نوح"، مع قليل أو كثير من التعديل في هذا النسب كالعادة"(15)، وأنّ القبيلتين كانا قريبًا عهد بعاد الأولى"(16)،  أما موطنهما فكان في (منطقة اليمامة)، التي كانت تسمى (جو) من قبل(17)، ونزوح "طسم" إلى اليمامة، إنما كان بسبب العامل الاقتصاديّ في المكان الأول، على أساس أن جزءًا، من (قبيلة ديدان)- وهي التي كانت تشارك في الحركة الاقتصادية بين جنوب الجزيرة وشمالها -قد نزح إلى منطقة اليمامة، ليحافظ على استقرار الأمن في الطريق التجاري من جنوب بلاد العرب إلى شمالها عبر اليمامة، ويبدو أن "جديس" أيضًا قد نزحت كذلك مع "طسم"، وبهذا يمكن أن نجد صلة النسب قائمة بين القبيلتين"(18)، ويؤكد  المستشرق (ده برسيفال) أن إغارة الحميريين على (جديس) إنما كان بعد عام ١٤٠م؛ وهذا يعني أن القبيلتين قد انتهى أمرهما في حوالي منتصف القرن الثاني الميلادي"(19)، ومن ثَمَّ فقد "أخطأ المؤرخون المسلمون في الربط بينهما وبين عاد الأولى"(20)

الملك حَسًَان يكسو الكعبة ويتهَوََد

يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: [(فَجَاءَ الْمَلِكُ حَسَّانُ بنُ أَسْعَدَ الْكَامِلُ الْحِمْيَرِيّ فَقَتَلَ جَدِيْسًا وَاسْتَأْصَلَ شَأْفَتَهَا. ونَهَاهُ وُزَرَاؤُهُ أَنْ يَفْعَلَ فَأَبَى إِلَّا ذَاكَ)].

قال ابن إسحاق إنّ الّذي سار إلى المشرق من (التبابعة) تبّعٌ الآخر، وهو (تبان أسعد أبو كرب بن ملكيكرب بن زيد الأقرن ابن عمرو ذي الأذعار)، وتبان أسعد هو (حسّان تُبّع)؛ وهو فيما يُقال أوّل من كسا الكعبة. وذكر ابن إسحاق: (الملأ والوصائل)، وأوصى ولاته من (جُرْهُم) بتطهيرها، وجعل لها بابا ومِفتاحا. وذكر ابن إسحاق أيضًا أنه أخذ بدينِ اليهودية، وذكر في سبب تهوّده أنه لما غزا إلى المشرق مرّ بالمدينة يثرب فملكها، وخلف ابنه فيهم، فعَدُوا عليه وقتلوه غِيلَةً ورئيسهم يومئذ (عمرو بن الطلّة من بني النجّار). فلما أقبل من المشرق وجعل طريقه على المدينة مُجْمِعًا على خرابها؛ فجمع هذا الحيّ من أبناء قيلة لقتاله فقاتلهم، وبينما هم على ذلك جاءه حَبْرَان من أحبار يهود من بني قريظة، وقالا له: لا تفعل فإنك لن تقدر وأنّها مَهَاجِرُ نبيٍّ قرشيٍّ يخرج آخر الزمان فتكون قرارًا له. فأعْجِبَ بهما واتبعهما على دينهما، ثم مضى لوجهته. ثُمَّ لقيه دون مكة نفر من هذيل، وأغروه بمال الكعبة وما فيها من الجواهر والكنوز، فنهاه الحبران أيضًا عن ذلك وقالا له: (إنما أراد هؤلاء هلاكك). فقتل النفر الهذليّين وقدم مكة فأمره الحبران بالطواف بها والخضوع، ثم كساها كما تقدّم، وأمر ولاتها من جُرْهُم بتطهيرها من الدماء والحيض وسائر النجاسات، ثم سار إلى اليمن، وحكى المسعودي في أخبار تُبَّعٍ هذا أنّ (أسعد أبا كرب) سار في الأرض، ووطأ الممالك وذلّلها ووطيء العراق في ملك الطوائف. وقد كانت لـ(كندة) معه وقائع وحروب، حتى غلبهم (حجر بن عمرو بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة) من ملوك كهلان، فدانوا له ورجع (أبو كرب) إلى اليمن، فقتله (حِمْيَر) وكان ملكه ثلاثمائة وعشرين سنة"(21)

الصراع بين اليهود والعماليق

يقول الشَّيخُ القاضِي عِيَسى الطَّائِيُّ: قال أبو تمَّام الطائيّ مُخَاطِبًا رَبْعَ أَحْبَابِهِ:

حتى كأن (أُمَيم) كانوا سكنا

(بكر) و(العَمَاليق) الأولى و(جديسَا)

(قبائل العماليق) يَنْسِبُها الإخباريون إلى"عمليق بن لوذ بن سام بن نوح"، وهو شقيق طسم"(22)، و"أصل كلمة "عماليق" أو عمالقة مجهول، وإن غلب على الظن أنّهم نحتوه من اسم قبيلة عربية كان موطنها جهة (العقبة) أو شماليها، ويسميهم البابليون "ماليق" أو "مالوق"، وأضاف إليها اليهود لفظ "عم" أي الشعب أو الأمة، فقالوا: "عم ماليق" و"عم مالوق"، ثم جاءت العرب فقالت:"عماليق" أو "عمالقة"، ثم سرعان ما أُطْلِقَت الكلمة على طائفة كبيرة من العرب القُدامى، ويكاد يتفق الإخباريون على أن (العماليق) عربٌ صُرحاء، ومن أقدم العرب زمانًا، ولسانُهم (المُضريّ) الذي نطقت به كل العرب البائدة"(23). وعلى أيّة حال، فالعماليق- في نظر التوراة- من أقدم الشعوب التي سكنت جنوب فلسطين"، وليس هناك من شك في أن الصدام الحقيقيّ بين (اليهود) و(العماليق) إنما بدأ في المرحلة الأولى من التيه"(24)، "حيث كانوا يسيطرون على طرق القوافل مابين جنوب فلسطين وشمال شبه الجزيرة العربية. وعليه فإنّ العمالقة من أقدم الشعوب التي اصطدم بها (بنو إسرائيل)، ومن ثم فقد حملوا لهم حقدًا دفينًا. واليهود - كما هو معروف - قد تأثروا بعواطفهم نحو الشعوب التي يكتبون عنها"(25)

يتبع...

المصادر والإحالات

(01) طالعْ هذه المصادر: المعارف لابن قتيبة- نهاية الأرب للقلقشندي – مروج الذهب للمسعوديّ والتيجان 51، وجمهرة الأنساب 406 – 459 – طرفة الأصحاب 12، 43، وفيه زيادات مفيدة، والنويريّ 291:15- تاريخ العرب قبل الإسلام لزيدان 121:1- تاريخ سني ملوك الأرض- الإكليل 8: 179- 180، الأعلام للزركلي، مجلد: 1، ص: 384

(02) تاريخ المستبصر، جمال الدين أبو الفتح يوسف بن يعقوب ابن محمد المعروف بابن المجاور الشيباني الدمشقي (ت ٦٩٠هـ).

(03) راجع هذه المصادر: الموسوعة اليمنية، د. يوسف عبد الله، ص: 2234، 2235، 2236- نماذج من فن العمارة في اليمن القديم، د. أسمهان الجرو، مجلة دراسات يمنية، العدد: 4، إصدار مركز الدراسات والبحوث اليمنيّ- الرازي، تاريخ مدينة صنعاء، تحقيق العمري، ط3، دار الفكر المعاصر لبنان وسوريا 1989- الإكليل، مجلة وزارة الإعلام والثقافة، صنعاء، عدد خاص بصنعاء (3،2) 1983- الهمداني لسان اليمن: دراسات في ذاكرة الألفية، إعداد يوسف محمد عبد الله، صنعاء 1986- أبو محمد الهمداني، الإكليل، تحقيق القاضي محمد بن علي الأكوع، دار الحرية للطباعة، بغداد 1980 

(04) سورة التوبة: 110

(05) الإكليل للهمداني، ج8، ص: 25

(06)غمدان، كاظم المظفر، أرشيف مجلة الرسالة، العدد: 848، أكتوبر 1949، ص: 1427

(07) تاج العروس، ج2، ص: 446

(08) معجم البلدان، ج6، ص: 303

(09) نهاية الأرب للنويري، ج1، ص: 371

(10) حمير.. تاريخ اليمن القديم، للمستشرق الألماني باول يول، دار النشر ليندن سوفت، مايدلبرغ،يوليو 2007، ص: 52-64

(11) الأعلام، خير الدين الزركلي، مج: 1، ط7، دار العلم للملايين، بيروت 1986، ص: 384، 385

(12) مروج الذهب ومعادن الجوهر، أبو الحسن المسعودي، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط5، مج2، دار الفكر، بيروت، 1973، ص:88

(13) البداية والنهاية، ابن كثير، ج 3، ص: 170

(14) العِبَر وديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر،عبد الرحمن بن بن خلدون (٧٣٢ - ٨٠٨ هـ)، مجلد 2، ط1، الناشر: دار الفكر، بيروت، 1981، :59، 60، 61.

(15) ابن خلدون ٢/ ٢٤، الأغاني ١٠/ ٤٨، ابن الأثير ١/ ٣٥١، اللسان ٧/ ٣٣٣، نهاية الأرب للقلقشندي ص٢٠٤، المعارف ص١٣، وكذا Ei, I, P.٩٩٢

(16) تاريخ الطبري ١/ ٣٣٧، اللسان ٦/ ٣٥

(17) ياقوت ٢/ ١٩٠، ٥/ ٤٤٢، البكري ٢/ ٤٠٧

(18) عبد الرحمن الأنصاري: لمحات عن القبائل العربية البائدة/ دراسات في تاريخ العرب القديم، محمد بيومي مهران، ط2، دار المعرفة الجامعية، ص: 156 – 161

(19)Caussin De Perceval, Essai Sur L'histoire Des Arabes Avant L'islamisme, I, P.89

(20) اللسان ٦/ ٢٥

(21) العِبَر بن خلدون، مجلد 2، ط1، الناشر: دار الفكر، بيروت، 1981، ص :61

(22) تاريخ الطبري ١/ ٢٠٧، الإكليل ٢/ ٤١٠، المعارف ص:١٣.

(23) جواد علي، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج1، ص:346

(24)The Jewish Encyclopaedia, I, P.218 وكذا A. Musil, The Northern Hegae P.460

(25) دراسات في تاريخ العرب القديم، محمد بيومي مهران، ط2، دار المعرفة الجامعية،ص: 156 - 161

 

([[1]]) تاريخ المستبصر، جمال الدين أبو الفتح يوسف بن يعقوب ابن محمد المعروف بابن المجاور الشيباني الدمشقي (ت ٦٩٠هـ).

([[2]]) راجع هذه المصادر: الموسوعة اليمنية، د. يوسف عبد الله، ص: 2234، 2235، 2236- نماذج من فن العمارة في اليمن القديم، د. أسمهان الجرو، مجلة دراسات يمنية، العدد: 4، إصدار مركز الدراسات والبحوث اليمنيّ- الرازي، تاريخ مدينة صنعاء، تحقيق العمري، ط3، دار الفكر المعاصر لبنان وسوريا 1989- الإكليل، مجلة وزارة الإعلام والثقافة، صنعاء، عدد خاص بصنعاء (3،2) 1983- الهمداني لسان اليمن: دراسات في ذاكرة الألفية، إعداد يوسف محمد عبد الله، صنعاء 1986- أبو محمد الهمداني، الإكليل، تحقيق القاضي محمد بن علي الأكوع، دار الحرية للطباعة، بغداد 1980