خريف ظفار.. حاضنة مُستدامة

 

 

خالد بن سعد الشنفري

 

هبات ظفار الربانية من خريف وطبيعة غناء وبحار وهضاب وصحارٍ ونجود وزرع وضرع تُعتبر حاضنة مستدامة بامتياز لكل من يزورها ولطالما كانت منطقة جذب لكل عابر أو زائر فيُغرم بها وتُغريه بالاستقرار، وقد جذبت العديد من العابرين على مرِّ العصور، فطاب لهم المقام واستقروا بها ونقلوا إليها ما كانوا هاجروا أو سافروا لأجله؛ كنشر العلوم الدينية أو تعلمعها في الأرباطة الدينية التي اشتهرت بها أو للتجارة أو العمل وكسب الرزق.

لكن من بين هؤلاء من قصدها كرحّالة كبار لشهرتها في كل عصورها، ويكفي أن نضرب لذلك مثالا بسيطاً على ذلك اثنين من أشهرهم هما الرحالة الشهير (ماركو بولو) الذي اعتبرها في وقته أجمل وأرقى مدينة حضرية في المنطقة، وكذلك (ابن بطوطة) الذي زارها مرتين في حياته، يفصل بينهما 20 عامًا، وقد كانت رحلته إليها في كل مرة تستغرقه شهرًا كاملًا بالبحر من كيرلا بالهند، وأسهب بدوره في وصفها ووصف حياة أهلها وطيبتهم وتدينهم وزهدهم، رغم تجارتهم الوفيرة المتنوعة من تصدير الخيول العربية الأصيلة واللبان وعسل النارجيل والأسماك المجففة وغيرها وكلها تجارة رائجة في ذلك الزمان.

حتى إلى الماضي القريب تعتبر ظفار المنطقة الوحيدة على مستوى العالم التي لم تتأثر اقتصاديًا بالحربين العالميتين الأولى والثانية رغم اكتفائها الذاتي، إلّا أن شرور قنبلتي هيروشيما ونجازاكي قد أتت بها الرياح إليها وتسببت في أضرار لبعض من أهلها بجروح وتقرحات رافقتهم طيلة حياتهم، وقد أبدع الشاعر الكبير محمد بن جمعة الغيلاني في وصفها في حواريته معها؛ حيث تصورها فتاة بالغة الحسن والجمال، وذلك قبل 80 عاماً من الآن، عندما زارها، ونقتبس منه بعض الأبيات:

موردة الخدين شهدية اللمى

لواحظها بالسحر ترمى فتسلب

قلت لها ما الاسم ياغاية المني

كأنك ليلى أو كأنك زينب

قالت بتشبيه العذارا ظلمتني

ولكنني سماحة لست أعتب

أنا الدرة البيضاء لؤلؤة النقا

أنا مرتع الغزلان في فلواتها

مؤمنة ترعى الزهور وتشرب

أنا الواحة الخضراء ظفار

أما ترى قصورًا وحورا ناعمات وربرب.

ظفار هبة الخريف بما حباها به من مقومات فريدة وعديدة في كل شيء.

وإذا كانت مقولة الفيلسوف اليوناني هيردوت الشهيرة قبل 2500 سنة أن "مصر هبةُ النيل"، ذلك أن هذا النهر العظيم مدها بالماء (مصدر الحياة) فحولها من أرض صحراوية إلى زراعية وحضارة عظيمة، أفلا يمكننا القول "إنَّ ظفار هبة الخريف"!

اليوم وفي هذا العصر يتدفق ويزداد ويتألق بريق ظفار عاما تلو الآخر وأصبحت بجدارة أفضل وجهة للزيارة وشد الرحال إليها وما شجع على هذه الزيارات أكثر هو كرم وترحاب أهلها بزوار خريفهم بل ومشاركتهم بهجتهم وسعادتهم ولسان حالهم يقول "توب ذا حي".

كنت منذ فترة ومع تنامي أعداد الزائرين إلينا كل خريف، التقي ببعض منهم وتجاذب أطراف الحديث معهم واستطلاع آرائهم ولمست أن كثيرًا منهم كان يتردد عليها باستمرار من سنين هو وأسرته في كل موسم، وهذا بحد ذاته شهادة على أهميتها، وإلا ما تعنوا آلاف الكيلومترات وتحملوا مشقة زيارتها ولو لأسبوع واحد ليمتعوا أنفسهم وأنظارهم وأسماعهم وحتى أنفاسهم وكل حواسهم بكل مُبهج وجميل فيها وخريفها المميز، والكثير منهم وبالذات من أشقائنا في دول الخليج قالوا لا شك أن هناك تغييرات وتطورات تزداد في كل عام في مجال الإسكان والخدمات عموما، إلّا أن الهاجس المشترك بينهم هو تمنياتهم أن يتم التركيز على البنية التحتية لصلالة، من شوارع وتصريف مياه الأمطار، وعدم انقطاع المياه في كل موسم خريف عن العديد من أحيائها، وتقليل الازدحامات على الطرق وتقاطعاتها ودواراتها، التي أصبحت عائقًا كبيرًا يحول بينهم وبين الاستمتاع بالفترة البسيطة التي يقضونها فيها وأن الأمر أصبح يستدعي ضرورة الإسراع وعدم التأجيل في معالجتها ولو بجسور أو أنفاق أوغيرها مما يعرفه المختصون في هذا المجال جيدا وتتم معالجته للقضاء على أكبر عائق يعيق السياحة حاليًا مع تضاعف أعداد السيارات والمركبات التي تنهال على ظفار بأعداد هائلة في فترة زمنية لا تزيد عن الشهرين، خصوصًا وأن معظم الزوار عائلات ولديهم أطفال قد قطعوا آلاف الكيلومترات عن طريق السفر برًا، وحقٌ لهم التنقل فيها بمرونة وانسيابية وهدوء وسكينة، والمشاهدة والاستمتاع بأكبر قدر مُمكن من المواقع السياحية والعيون المائية والمناشط والفعاليات عمومًا.

لقد احتضنت قلوبنا جميعًا كعمانيين وعلى مر التاريخ، زوارنا وضيوفنا، فهل نعجز اليوم في هذا العصر عصر التقنيات والإبداع، أن نجعل من شوارعنا مرنة سالكة لتحتضن سياراتهم ووسيلة تنقلهم الوحيدة المتاحة لهم هنا؟!

لقد بدأنا بالفعل مُؤخرًا نستشعر شيئًا من العيب والتقصير في حق زوارنا وضيوفنا ونخجل من ذلك خصوصًا وأنَّ شعارنا "السياحة تثري"، وأننا نخطط لجعلها أحد مصادر الدخل الرئيسية لبلادنا، فأين نتاج هذا التخطيط؟ وهل يعقل أن ترضى عُمان وشعبها الكريم المضياف على أنفسهم بأن يثرون من زوارهم وسياحتهم دون بذل شيء في مقابل ذلك؛ اعتمادًا فقط على الخريف والطبيعة والأجواء الربانية التي ليس لنا دور فيها!

هذه رسالة لكل من بيده قرار في هذا الشأن وأخص بالذات حكومتنا الرشيدة، ونقول لجميع أعضاء مجلس الوزراء لم يعد مقبولًا ألا يظهر تطورنا في هذا الجانب، وأنه إذا لم يظهر هنا في مثل هذه المواقف ونبدأ عمليًا في التنفيذ بأسرع فترة زمنية مُمكنة لاستقبال مليون و200 ألف زائر متوقع هذا العام بزيادة مقدارها 200 ألفًا عن الموسم الماضي، وأن ما هو متوقع حسب هذه الحسبة الإحصائية البسيطة من السنوات السابقة أن ترتفع الأعداد المتوقعة وتتجاوز معدل المليوني زائر بحلول 2030، فماذا عملنا لاستقبالهم واستيعابهم؟ وبما استعدينا لذلك غير الاعتماد على ما يقوم به مكتب المحافظ وبلدية ظفار مشكورين، وهما في الأساس جهتان ينحصر عملها على الحكم المحلي والخدمات البلدية على مدار العام، فحملناهما فوق طاقاتهم!

إن الأمل ما يزال كبيرًا في حكومتنا الرشيدة، فقد بذل القطاع الخاص كل استطاعته وأدى دوره بجدارة، وشاركت وساهمت كل جهة حكومية منوط بها الأمر (مكتب المحافظ وبلدية ظفار وشرطة عمان السلطانية ووزارة التراث والسياحة ووزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار)، لكن لن تكتمل الحلقة دون البنية الأساسية المتطورة، وهذه أمرها مركزي محصور في مسقط وفي مجلس زرائنا الموقر، ونحن هنا نوجه مناشدات صادقة للتذكير والحث والإسراع في الجهود لكي لا نجد أنفسنا في الأعوام أو المواسم المقبلة، في وضع لا نُحسد عليه، وهذا ما أصبح يستشعره ويلمسه بجلاء ويتوجس منه الجميع هنا، من مقيمين وزائرين، رغم الجهود المشكورة المبذولة من كافة الجهات، وليس لنا سوى التذكير والمناشدة.

وفقنا الله جميعًا لخدمة هذا الوطن العزيز المعطاء وأهله لما يحبه المولى ويرضاه.