آيديولوجية "طوفان الأقصى"

 

د. عبدالله باحجاج

قالوها ونكررها "لا عزاء للشهداء"؛ فالشهادة جزءٌ أصيلٌ من آيديولوجيتهم التي تدفع بهم إلى الجهاد، فكل مجاهد/ مُقاوِم في فلسطين المُحتلة مشروعُ شهادةٍ، ومن هنا نقول السلام على روح الشهيد إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الذي اغتاله العدو الصهيوني في قلب العاصمة الإيرانية طهران، والسلام كذلك على أرواح كل الشهداء في فلسطين المحتلة، وعزاؤنا القلبي على أولئك الذين يفرحون باغتيال الشهيد هنية وإبادة أهل غزة من قبل الصهاينة المحتلين، فكيف يفرح مسلم باغتيال أخيه المسلم أو بقتل المُسلمين مهما اختلف معهم في مسائل فكرية أو سياسية؟ هل تعكس قلوبهم ذرة إيمان؟

لا عزاء للشهداء؛ فالشهادة خيارهم ومبتغى غايتهم، فهم يعلمون مسبقًا أن جهادهم في ظل معطيات الصراع المادية غير المتوازنة الراهنة يرجح كفة الشهادة، لذلك هم كل يوم يترجلون في رحلة مباركة عظيمة مصيرها مصداقاً لقول الله جل في علاه "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ" (آل عمران: 169). من هنا لا عزاء في الشهداء، ومن هنا نفهم ونتفهم السر العظيم الذي يدفع بأهل غزة ليس مقاوميها المؤطرين فحسب؛ بل نساؤهم وأطفالهم وشبابهم وشيوخهم إلى الشهادة. وعندما تصرخ النساء في وجه المثبطين قائلة "لا تقلقوا من نقص الرجال، فنساء غزة ولّادات" وأمهات أخرى تتمنى لو أن عندها شباب آخرين تدفع بهم للشهادة بعد استشهاد كل أبنائها.. إلخ.

صحيحٌ أنَّ عملية اغتيال هنية تُشكِّل وجعًا نفسيًا عميقًا، وتُحطِّم أبسط القيم والأخلاق الإنسانية، فكيف بالصهاينة يخسرون أموالًا طائلة ويفعِّلون مكرهم الذي تزول منه الجبال من أجل اغتيال شخصية سياسية يتفاوضون معها من أجل السلام، فكيف يثق فيهم؟ وهنا يتكرر مُجددًا ما نبّه إليه قرآننا العظيم، ونراه في واقعنا المعاصر من عدم الثقة باليهود؛ بل ويرشدنا إلى أدق تفاصيل غدرهم، عندما تقول الآية الكريمة "أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ" (البقرة: 100)، والمفسرون يقولون إن اليهود حين ينقضون العهود لا ينقضونها جميعهم في وقت واحد، وإنما ينقضها فريق دون آخر، وإن أصابه سوء تظاهر الفريق الآخر بالمحافظة على العهد، وإن استقام لهم الأمر تتابعوا في النقض، ومشى بعضهم وراء بعض.

تأملوا هنا كيف يكشف لنا ديننا الطبيعة اليهودية في كل زمان ومكان، ورغم ذلك، فإننا على يقين أننا كعرب لن نستفيد من مثل هذه الانكشافات، وهي كثيرة.

فهل نيأس؟ الإجابة نجدها واضحة كذلك في قرآننا العظيم "وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ" (الروم: 47) وكذلك قوله تعالي "وكفى بالله وكيلًا". نجد في مثل هذه الآيات المباركات ما يواسينا في وجع استشهاد هنية وأوجاع كل فلسطين؛ بل كل الأمة الإسلامية، وكل متأمل في مفرداتها ستصل إليه رسالة النصر الحتمية "وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ" أنها تُولِّد اليقين بالنصر الحتمي لكل مؤمن في أي زمان ومكان، فكيف بمكان أرض الرباط؟ ومن تلكم الآيتين يستمد أهل غزة قوتهم في النصر رغم حرب الإبادة التي تمارس ضدهم والتي راح ضحيتها الآلاف من الشهداء والمصابين وهي تدخل شهرها الحادي عشر.

وفي ندوة أقيمت يوم السبت في صلالة بعنوان "فلسطين في قلوبنا" حاولنا أن نؤطر الندوة بتلكم الخلفيات عبر طرح بعض التساؤلات وأبرزها: طبيعة الآيديولوجيا التي فجّرت طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، مقارنة بالآيديولوجيا في سياقها التاريخي للصراع العربي الإسرائيلي، لكننا لم نتلق الإجابة المباشرة على التساؤل، وكان الدافع لطرحنا هذا التساؤل بالذات ما أبداه بعض المشاركين في الندوة من دهشة جراء صمود المقاومين حتى الآن، ومن قدرتهم على تخزين العدد الكبير والضخم من الأسلحة في الأنفاق في سرية تامة وكاملة، وكذلك تبديدهم لمقولة الكيان الذي لا يهزم.. إلخ.

وقد أردت من ذلك التساؤل القول إننا إذا أردنا أن نبحث عن السبب في كل ذلك، فعلينا أن نبحث في طبيعة الآيديولوجيا في الصراع العربي الإسرائيلي قديمًا وحديثًا، فنصف فلسطين المحتلة تقريبًا- غزة- تقاتل الآن عدوها المحتل والمنتهِك للحرمات والأعراض، تقاتله من منطق النصر أو الشهادة، تقاتله وهي واثقة أنها بدمائها ستحقق المبتغيين النصر والشهادة، الأولى مؤجلة، والأخرى عاجلة، لذلك كشف الكيان عن واقعه الضعيف في سابقة لم تحدث طوال تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي؛ بل العكس، فقد كان هذا التاريخ سببًا في صناعة وهم قوة العدو التي لا تهزم.

وهناك استفادة عابرة للحدود العربية والإسلامية من درس غزة، وهي إعلاء شأن المبادئ والقيم والهوية الوطنية- كتنظير وممارسة- وزراعتها في أجيالها، فهي ضمانة تحقيق أهدافها التنموية، ومن ثم ديمومة استقرارها وعدم اختراق مجتمعاتها. وكل من يتأمل في خارطة التحديات المقبلة للدول، سيجد أنه ليس أمامها من خيار سوى الرهان على منظومتها القيمية والأخلاقية والانتمائية، لمواجهة إكراهات محاربة القيم بالانحلال، ومخاطر الجماعات الآيديولوجية المُسلّحة والمُتطرفة.. إلخ.