مَنْ يقف وراء الإرهاب؟

 

 

مرفت بنت عبدالعزيز العريمية

من يقف وراء الإرهاب؟ وكيف يُمكن لفكر مُتطرف أن يتلبس الإنسان؟ الموضوع تناوله الكثير من الباحثين في دراسات مُنفصلة على مدار العقود مع ارتفاع وتيرة أعمال العنف والتطرّف والأفكار الضالة، غير السويّة التي لا تتناسب مع روح التسامح واحترام الاختلاف، ولا مع روح الأديان التي كانت في الأصل تدعو إلى نشر الفضائل والأخلاق والقيم.

تناولت في مقالات سابقة أهمية تقبّل الاختلاف والتعايش مع الفكرة المختلفة، لأنَّ الأصل في الحياة الاختلاف والتنوع، ومَنْ يقل غير ذلك فهو واهم؛ فالتعايش مع مختلف الأفكار يثري الحياة، والمجتمعات التي تعايشت مع الاختلاف ازدهرت، ولا ننسى أنَّ الحضارات التي تطوّرت قد بنت نفسها من استيعاب الآخر وترجمة ثقافات وعلوم الشعوب الأخرى؛ فالحضارة مسألة تراكمية وليست فكرة واحدة تكرِّر نفسها. يمكنك أن تتخيّل العالم كله من جباله وبحاره وغاباته وكائناته بلون واحد، ونوع واحد إلى أن يصيبنا الملل والسأم من الحياة.

ما نراه اليوم من أفكار شاذّة ما هي إلا نتيجة لمجموعة من الحوادث والأحداث التي تشكّلت في الوعي المجتمعي على مدى عقود، قد تكون نتيجة ضغوطات اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، وبغض النظر عن الأسباب فهي تؤكد حقيقة واحدة أنَّ هناك من يريد أن يزلزل القيم والتركيبة المجتمعية لتحقيق مآرب آخرى. والإرهاب شأنه شأن أي كائن حي يتغذى وينمو وسط محيط حي ويموت إن جفّت منابعه، فهو يتغذّى على مشاعر الغضب والكراهية وعدم المساواة والفقر والتهميش والنقص والجهل والخوف وغيرها. والجهل هنا ليس المقصود به الأمية، بل قلّة الوعي وضبابية المعلومات التي يستغلها البعض لبث روح الخلاف. فالتطرف صناعة إنسانية ولا يولد الإنسان متطرفًا أو معتدلاً لكن قد تنشأ معه استعدادات للتطرف أو الاعتدال تغذّيه تحت ستار الإرهاب ومكافحة التطرّف ومحاربة كلّ ما من شأنه أن يقيّض مصالح فئة مُعينة على حساب الآخرين.

"نما التطرف"، هذا ما أشارت إليه دراسة نُشرت في أواخر السبعينيات من قبل الأمم المتحدة التي تناولت موضوع الإرهاب؛ حيث لخّصت الدراسة أن الأعمال الإرهابية التي تطال الكثير من الدول والمجتمعات هي لغايات الإخضاع والسيطرة واستنزاف الموارد، تحقيقا لمصالح قوى أخرى. فالاستعمار والحروب لم تتوقف يومًا، بل اتّخذت أشكالا جديدة لمصادرة موارد دول لصالح دول أخرى والسيطرة على مكتسباتها وقراراتها وتركيع شعوبها كي تتمكن من استنزاف مواردها حتى تنشف خزائنها، من منطلق الدارونية.. فالبقاء للأقوى.

والإرهاب أخذ أشكالا كثيرا؛ من أبرزها: محاربة الهوية الوطنية والثقافات الأصلية للشعوب، ونشر الجهل ومحاربة الأخلاق والقيم الأصيلة بوصمها بالرجعية ونشر التفاهة وصناعة الإلهاء، وتشويه صور الشعوب الأخرى في الدراما والسينما وإلصاق كل الرذائل بهم، وتزوير التاريخ وحقائقه لصالح الأقوى، وخلق صراعات بين الطوائف والأعراق والأديان والمذاهب في المجتمع الواحد تطبيقاً لنظرية فرق تسد. هذا غيض من فيض للعديد من السياسات التي أسهمت على مدى عقود في تهيئة المناخ للإرهاب العالمي.

هكذا انقسم العالم إلى دول متقدمة بموارد دول نامية ودول متخلفة عن الحضارة تُستنزف مواردها لرخاء الأول وبقائه، بدعوى توفيرالحماية والخبرات والصناعات الحديثة وغيرها من مستلزمات الحياة المتحضرة!

وفي العقود الأخيرة، ومع يقظة العالم وزيادة الوعي بفضل التطور التكنولوجي، باتت الحقائق واضحة والمعلومات متوافرة، فبدأت الصيحات تعلو رافضة التركيع والتهميش على أطراف الحضارة الإنسانية وتنادي بإنهاء الاستعمار الاقتصادي وصناعة القرار، مثلما حدث في بعض من الدول الأفريقية التي تصارع من أجل الحرية.

عند تصاعد وتيرة العمليات الإرهابية في أي مكان، فتّش عن المستفيد. كنت وما زلت مؤمنة بأن أفضل طريقة للسيطرة على العقول، هي نشر الجهل ومُحاربة التفكير والأفكار الإبداعية التي تنهض بالمجتمعات النامية، وأنَّ التلقين ومصادرة الفكر آثاره تمتد إلى أن يصبح الإنسان وعاءً لأي فكر سلبي أو إيجابي لأننا صنعنا منه كائنا فاقدَ القدرة على التفكير والنقد البناء.

وتلعب التنشئة الاجتماعية والتربوية دورا مهما في حماية الإنسان من التطرف؛ فكلما كانت الأسرة قادرة على نشر ثقافة الحوار والاستماع بين أفرادها كانت قادرة على مواجهة أي صوت نشاز قد يطفو بين الفينة والأخرى.

تُؤكد الدراسات أنَّ التنشئة الاجتماعية السليمة في سن الطفولة والمُراهقة من شأنها حماية الفرد من التطرف فغياب دور الأسرة قد يصنع منه ضحية سهلة في أيدي المتطرفين الذين يزرعون فيه قيم افتقدها في الأسرة.

ولا نَنسى دور مؤسسات المجتمع الدينية التي تنشر الفكر المعتدل وتقبل الآخر؛ فالدين أولاً وأخيرا معاملة وليس فقط مجموعة من الشعائر. والإعلام الذي يناط به نشر التعددية الفكرية ورفع مستوى الوعي المجتمعي اتجاه كافة القضايا بشفافية واتزان دون تهويل أو تقليل. والأمر يكتمل بمشاركة مؤسسات المجتمع المدني القريبة من المجتمع، وبتكاتف الجهود وتكاملها لن يكون للإرهاب مكانٌ لينمو فيه.