ماذا يعني الاحتفال بالهجرة النبوية لنا ولإخواننا في غزة؟!

 

 

الدكتور محمد بن قاسم بوحجام

يحلُّ علينا العام الهجري الجديد (1446هـ) أعاده الله علينا وعلى الأمّة الإسلاميّة باليمن والبركة والخير العميم، وعلى أهلنا في غزّة وفلسطين بالنّصر المؤزّر على الأعداء الأقربين والأبعدين، وبالفتح المبين؛ باسترجاع الحقوق المغصوبة والأراضي المسلوبة، وتحرير المسجد الأقصى والقدس وفلسطين من الصّهاينة الأنجاس الأنذال، وبالمكر الممحق الشّديد والنّكال الكبير السّاحق للكيان ومن يناصره ويؤازره ويسنُده، وبالانتقام من الخونة والمطبّعين والمنبطحين والمتخاذلين، وهداية مَنْ تقاعس عن أداء واجبه الدّيني والإنساني والحضاري في نصرة المقاومة الفلسطينيّة، في القضيّة المحوريّة المصيريّة في حياة المسلمين في كلّ أنحاء العالم.

إذ نستقبل العام الهجري الجديد ونحتفي به، ونتبادل التّهاني والدّعوات بالحفظ والصّون والهداية والسّداد والرّشاد... نسأل أنفسنا: هل وعينا حقيقة الحدث المفصلي في حياة المسلمين والدّعوة الإسلاميّة؟ هل أدركنا ما تعني هجرة النّبيّ والمسلمين من مكّة إلى المدينة؛ فرارًا بدينهم، منتقلين من أرض ضُيِّقت عليهم فيها عبادة الله إلى أرض رحّبت بمقدمهم ليجدوا الحريّة الكاملة في عبادة ربّ العباد؟

هل فهمنا معنى الهجرة الواجبة في هذا العصر، الذي اختلطت فيه المفاهيم، وحجّر فيه على الدّين، وضيّقت فيه المساحات والفرص لتطبيق شرع الله؛ بما تفرضه قوانينُ العولمة ومظاهرُ الحريّة المنتهِكة لحقّ الفرد في إقامة شعائر الدّين كما جاء بها القرآن الكريم والسّنّة النّبويّة المطهّرة، وبما تتفنّن فيه ضغوطُ التّشريعات الوضعيّة وتهديداتُ المنشئين لها والقائمين على تنفيذها، بالتّنكيل بكلّ مَنْ لا يمتثل لها؟

بمعنى أوضح وأكثر صراحة: هل فهمنا ووعينا أنّ الهجرة بالنّسبة للمؤمنين في هذا العصر أصبحت غير التي كانت في منطلقها يوم هاجر الرّسول وصحابته من أرض العسر إلى أرض الأمان؛ إذ الهجرة صارت اليوم عكسيّة: ترك دار الكفر أو الأماكن التي يعسر فيها تطبيق شرع الله والعودة إلى دار الإيمان، المواطن الأصليّة، التي تُضمَن فيها عبادة الله ، أفضل من تلك المواطن التي تقهر وتجبر المسلم الحرّ على الانسلاخ من دينه وأصوله.. فتصبح الهجرة العكسيّة -في هذه الحال- واجبا شرعيّا. وإلّا ينطبق على من لا يمتثل لهذا الأمر -حين يضيّق عليه أمر تطبيق شرع الله- وعيدُ الله، كما جاء في قوله تعالى: "إنّ الذين تتوفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيمَ كنتم قالوا كنّا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنّم وساءت مصيرا" (النّساء:97)؛ فالهجرة واجبة من أرض يُستضعَف فيها المسلم ولا يتمكّن من تطبيق دينه كما يجب. ولا يعذر ولا يستثنى إلّا من ذكرتهم الآية بعد هذا الوعيد "إلّا المستضعفين من الرّجال والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا" (النّساء/ 98). علّة الهجرة وداعيها في الآية الأولى، وعذر غير القادرين عليها منصوص عليه في الآية الثّانية.. فليختر الكيّسُ الذي يبغي النّجاة من وعيد مَنْ لا يخلف وَعدَهُ ولا وَعيدَهُ يوم الحساب الأكبر، فليختر ما يصلح له لسعادته الأبديّة.

هل فقهنا حقيقة الهجرة اليوم، وهي هجرة المعاصي والموبقات والمحرّمات، وشهوات النّفس الأمّارة بالسّوء والفحشاء، وهجرة التّراخي عن مقاومة الضّغوط التي تدعّ المسلم دعّا لارتكاب ما حرّم الله، والبعد عن الطّريق المستقيم في العبادات والمعاملات والعلاقات؟

هل وعينا معنى الهجرة، وهي البعد عن الغفلة التي تحرم المسلم من القيام بأداء الحقوق التي هي على عاتقه نحو إخوانه المسلمين من كلّ الفئات والأصناف والمستويات؟ هجرة الكسل والقعود عن النصرة والإغاثة والعون والمساعدة والمشاركة في كلّ ما يبني وينشئ البنيان ويؤسّس للحياة الكريمة.

في هذه الأيّام العصيبة التي تمرّ بها القضيّة الفلسطينيّة، ويعيشها إخواننا في غزّة وما يتّصل بها: هل فكّرنا ونفّذنا منطق الهجرة؛ هجرة بعض الملذّات؛ لأنّ أهلنا في غزّة يتألّمون من الحرمان من كلّ شيء؟ هجرة أو النّقص من الأفراح ومظاهر الابتهاج؛ لأنّ إخواننا في غزّة يستيقظون وينامون على الكوارث والنّكبات، إن ظفروا بهذا النّوم أصلا؟

هل هجرنا الحفلات الفنّيّة والموسيقيّة؛ لأنّ إخواننا في غزّة يمسون ويصبحون على الكآبة والحزن والأسى؟ هل هجرنا لذائذ الطّعام والشّراب، أو أنقصنا منها، وابتعدنا عن الإسراف والتّبذير فيها؛ لأنّ أهلنا في غزّة لا يجدون ما يأكلون ولا ما يشربون؟

هل وضعنا حدودا للانتشاء والاحتفاء بالنّجاح والفوز في الامتحانات ومختلف المسابقات، وهجرنا المبالغة في هذا المجال؛ لأنّ أطفال غزّة حرموا من التّعلّم بانتظام، أو قطعوا عنه بإبعادهم عن مراكزه، أو بقتلهم والتّخلّص منهم كي لا يكونوا رجال فلسطين الأبطال في المستقبل المقاومين للعدوّ الصّهيوني؟

هل أدركنا أنّ هجرة القيام بواجب نصرة القضيّة الفلسطينيّة جريمة لا تغتفر، وجريرة لا تُكفَّر؟ هل وعينا أنّ هجرة العمل على توفير أسباب الانتصار على الصّهاينة والمتصهينين والمطبّعين والخونة والمتخاذلين...مخالفة شرعيّة وقعود عن الجهاد، يحاسب عليه المسلم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم، وعمل صالح يقدِّم لأهل غزّة مددا وعدّة وعتادا وعُتاة.. للانتصار على الأعداء من كلّ الأشكال والأنواع والأصناف.

هذه بعض معاني الهجرة التي يجب أن يدركها ويفقهها ويطبّقها المؤمن الصّادق المخلص الواعي لرسالته في الوجود، الحامل لهمّ توفير النّصر على النّفس الأمّارة بالسّوء، والمتحمّس لتهيئة الظّروف والوسائل للانتصار المؤزّر على قوى الشّرّ بإذن الله تعالى.

تعليق عبر الفيس بوك