عوراء وكبش فداء

 

عائشة السريحية

"إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ"، هكذا أُلقي الخطاب على بلقيس ملكة سبأ، وهكذا بدأ الحوار السياسي.

اليوم جاء الخطاب، إنِّه من "الآيباك" (لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية) وإنه باسم الشيطان الرجيم، خطاب بلا هُدهد ولا جان، صيغت أجنداته لخلق الحروب والدمار، تتراقص على ديدن الطامعين في الثروات، وتحرق الدم وقودا لصناعة الأموال، بطرق تجاوزت البراجماتية والميكيافيلية، فلا يهمها كم دم يُسفك، أو كم روح تُزهق، خططٌ تُحاك أسفل الطاولات، واتفاقيات سوداء تُبرم، بالابتزاز أو الطمع على أعلى المستويات، تمارس مهامها في كواليس ودهاليز الدول، وفي ظلال تكاد لا تُرى، لكنها واضحة جليًا للمبصرين.

"الدولة العميقة"، المُتستِّرة خلف صناديق الاقتراع، تختار هذا وترشح هذا وتصوت لهذا، فلا خيارات غير خياراتها، تلك الجذور المنغرسة في جسد القرار العالمي، اليد الخفية، التي أصيبت مُؤخرًا بالجنون.

في أمريكا بايدن وترامب، يتقاتلان في مناظرة لإثبات من يحب إسرائيل أكثر، وكما غناها الفنان السعودي محمد عبده "اختلفنا مين يحب الثاني أكثر، واتفقنا إنك أكثر وأنا أكثر".

تابعت بتحليل عميق، القرارات الدولية، والخطوات السياسية والعسكرية، والخطط الإعلامية، وكل ما يقوم بعمله هذا اللوبي، واتضحت مسارات اتخاذ القرار التي لا تخرج إلا من تحت يديه، فكان يقينًا أنه لا يهتم بيهودية ولا مسيحية ولا إسلام، هو لوبي صهيوني تحالفت فيه مجموعات بانتماءات مختلفة، تشابهت أفكارهم وخططهم وسخروا إمكانياتهم المادية والسياسية التي بنيت على الابتزاز الاقتصادي لمعظم شخصيات ودول العالم، لهدف واحد، هو تجديد الموارد المالية والاستمرارية، فهم لا يسمحون بإنفاق الدولارات من محفظتهم الخاصة؛ بل يسرقون الهدف ويدمرونه بماله، ثم يتم الاستيلاء على مصادر الثروة فيه.

بل إن دول العالم الثالث صارت تخشى أن تفصح أرضها عن امتلاك ثروة، ونفط، وغاز، وذهب، ويورانيوم، وليثيوم أو حتى موقع استراتيجي؛ لأن النعمة تتحول لنقمة فيسيل لعاب مصاصي الدماء الذين يرتدون البراندات الغالية، ويتعاملون بالإتيكيت، ويتوشحون رداء منظمات حقوق الإنسان والحيوان.

هذه الدولة العميقة استغلت وجود اليهود فيها، فهم المحرك الأول الذي أدار العجلة الدموية للمال، منذ وعد بلفور، في سرقة أرض ليست لهم، لإنشاء منصة استعمارية تلتهم الجميع، وجمعوا كل اليهود من كل مكان في العالم في فلسطين بدعوى أنها "أرض الميعاد"، رغم علمهم جيدًا أن الأمر لن يبقى طويلًا، فهي مُقامرة دخلوها، فإن صابت ونجحت، عليهم الانتقال للمرحلة الأخرى وهي الاستعباد الاقتصادي والسياسي للدول المحيطة، لخدمتها، بحيث تصبح الدول في المنطقة غير قادرة على الاستغناء عن دور هذه الدولة العميقة، وتحولها لواحات استهلاك بشري، للأكل والشرب والدواء والتجارب والدراسات، ومصدرًا للثروات الخام بعد أن يتأكدوا من حجم ما تمتلكه هذه الدول المستهدفة من ثروات حقيقية، ولا يأتي ذلك إلا بأبحاث ودراسات مُطوَّلة، في ظل رعاية وحماية الدول المستهدفة، التي قد لا تعي أنها موضوعة على قائمة طعام هذه الدولة العميقة في الغرب، نتيجة لما يتلقوه من وعود فارغة.

وإن لم تفلح في تدجينها، فإنها تلجأ للضغط السياسي والعسكري والحربي، فتبدأ بتنفيذ أجندة افتعال الفتن الداخلية وتأجيج الصراع أيًّا كان نوعه: ديني أو عرقي أو مذهبي أو جهوي أو مناطقي، لا يهم نوعه، ولكن المهم كيفية إذكاء ناره، فيرسلون جواسيسهم لن تجد ألطف منهم لدراسة المجتمع دراسة عميقة، والتعرف على نقاط الخلاف بين أطيافه، ثم ترفع هذه الدراسات لوضع خطط مناسبة لها، لاستقطاب مسعري الفتن فيها، ثم تبدأ مرحلة الهندسة الاجتماعية، صنع نماذج مؤثرة، وعرضها على وسائل الإعلام، وفتح منابر لها للفتنة، كي يبدأ أفراد المجتمع بالتعاطي السلبي والإيجابي معها، ثم تعظم مواطن الخلافات، عن طريق ما يسمون بالذباب الإلكتروني، ونبدأ بسماع تراشق الاتهامات،  لتفتعل شرارة البدء بعد أن يصل المجتمع لمرحلة نضوج المحصول، وأقصد حين يخون الجميع بعضهم، وحينها تنشأ مليشيات وعصابات، حسب الميول والانتماء، يتم ضخ المال لها والسلاح، ويبدأ المجتمع بتدمير نفسه، دون أن يعي أنه ينفذ حربًا بالوكالة.

وحين يصل المجتمع لمرحلة مناسبة من الفوضى والتدمير، تعمل هذه الدولة العميقة في استخدام ممثليها السياسيين في الغرب، للتدخل والدخول للدول والمجتمعات المنكوبة، بدعوى مساعدتها ومن ثم السيطرة لسرقة ثرواتها وتحقيق الأهداف بكل سهولة ويسر في ظل غياب الدولة والنظام والقانون. فترى سيطرتها الحقيقية على منابع الثروات، تاركة البلد متخبطا مابين قتل وتفجير وتدمير، بينما مناطق الثروات محمية.

الشرق الأوسط هو أهم مصادر الثروة في العالم، يمتلك الموقع الاستراتيجي وسط العالم، من نفط وغاز وذهب ويورانيوم، وبنى تحتية جاهزة، ومستقبل الغرب، وحديقته الغناء، الآيباك ليس كما قلنا يهوديًا؛ بل نسيج استعماري، وهذا ما لاحظناه من خلال ما حدث مؤخرًا في الدول التي تقع تحت سيطرته.

ولأن الأمر يشبه قائمة الطعام، فإن بعض المجتمعات تظن لو أنها قدمت الولاء والطاعة فذلك سيضمن لها ديمومة السلام والتقدم، إلّا أن الأمر مسألة وقت، وككرة الثلج التي تبدأ صغيرة ثم تلتهم مابطريقها لتصبح عملاقة جدا تلتهم كل شيء.

وبالعودة للوبي الصهيوني أو مايسمى الأيباك، فإننا نتساءل: لماذا الغالبية العظمى في مجلس الشيوخ الأمريكي مدعومون بشكل مباشر من الآيباك؟ ولماذا يُحارَب من لم يُصعِّدونه هم، وكيف ينتهي الأمر باستقالة كل من كان لا يرى نفسه عبدًا مملوكًا لهذا اللوبي؟

ولماذا رغم الحرية الديمقراطية لا نجد سوى خيارين فقط لحكم البيت الأبيض، الديمقراطي أو الجمهوري؟!

لا ننسى أيضًا أن البيت الأبيض، يُبرر ما تفعله إسرائيل من قتل وتدمير رغم رفض الشارع الأمريكي لذلك؛ بل ويتغابى لجعل الأمر اعتياديًا وأن الحقيقة هي ما يريده اللوبي لا ما يريده الشعب. وهذا ما نراه متكرر الحدوث في عدة دول غربية وكأن زعيمهم جميعًا واحد.

واقع الحرب بالوكالة، يوفر على الدولة العميقة الخوض في حروب مباشرة قد تؤثر عليها على المدى البعيد والقريب، لذلك تستخدم الأدوات، ومن مبدأ نفذ أجندتي لأحمي مصالحك، أو أجعلك شريكا في المنفعة ، أو مجبرًا لا خيار لك.

بعد معركة طوفان الأقصى لم يعد هناك صندوق أسود مخفي، فقد تم البث ليصبح كيوم القيامة، صحى على إثره الملايين، إلّا أن هناك من مازال تأثير المنوم مُسيطرًا عليه فيتخبط كالذي يتخبطه الشيطان من المس.

قيل إن الفارق بين العرب والغرب نقطة، وهذه النقطة يبدو أنها تتجاوز الخوف من الهيمنة الغربية، والاستعداد لخوض مستقبل جديد، يقوم على الاعتماد على الذات وبناء تحالفات جديدة، والخروج من قيد الوصاية الغربية، العالم أصبح متعدد الأقطاب، ومُخطئ من ظن أنه يتمسك بريش الولايات المتحدة الذي بدأ يتساقط يومًا بعد يوم؛ فالفكرة في مقاومة الاحتلال هي ذاتها التي زُرِعت في قلب كل حُر يسكن هذا الكوكب، وهي ذاتها التي خلقت "تأثير الفراشة"، ولم يعد الوضع كالسابق والمسألة مسألة وقت، وسيأتي يوم يتذكر فيه الناس قصة هيمنة اللوبي الصهيوني على العالم، ويحكى في وثائقيات تتعجب منها الأجيال القادمة.