الكهنوت المالية.. فزاعة الشعوب!

 

علي بن سالم كفيتان

لم تعُد الكهانة مُقتصرة على رجال الدين اليهود والنصارى، كما كانت على مرِّ التاريخ؛ بل انتقلت إلى مختلف مناحي الحياة؛ فبات لدينا كهنوت مالية تَعِد بالفقر والعوز لتمارس الإرهاب الكهنوتي المالي لجموع الناس، وإقناع العقل الباطن لديهم بأنَّ الحلول معدومة وصعبة؛ بل ومُستحيلة.

هذا النوع من الرهاب المالي ولَّد في مجتمعاتنا- أولًا- جيوشًا جرارة من الباحثين عن العمل في مُقتبل العمر في بلدانٍ غنية تُحقق موازناتها فوائض مالية؛ لأنَّ الأولوية وفق هذا الكهنوت التي تقودها المؤسسات الدولية- مثل صندوق النقد الدولي، عبر نصائحه وتقاريره- ليست للتوظيف؛ بل لزيادة الإثراء، عن طريق تحويل الفوائض إلى الشركات العابرة للقارات في هيئة مناقصات مليونية وإعفاءات ضريبية غير محدودة من الرسوم والخدمات، في الوقت الذي يطلب فيه الصندوق تضييق الخناق على المواطنين بتطبيق جميع صنوف الضرائب ورفع الدعم عن جميع الخدمات، وهذا ما يجب على الحكومات التحوط منه.

ثانيًا: ولَّد هذا الرهاب المالي حركة اقتصادية راكدة وتراجعاً في القدرة على الشراء إلى مستويات غير مسبوقة، بسبب عدم توفر النقد لدى الإنسان العادي، الذي يُجاهد بكل طاقته للحفاظ على أساسيات الحياة كالماء والغذاء، وتوفير الطاقة والملبس، ومن هنا أصبحت أسواقنا خاوية والمناخ الاستثماري غير مجدٍ؛ فالمشاريع تقومُ على القوة الشرائية للمجتمع، ومن هنا نلاحظ هجرة الاستثمار إلى مناطق أكثر سيولة وسهولة في التعامل وفيها قوة شرائية يستطيعون من خلالها بيع بضائعهم ومنتجاتهم والترويج لابتكاراتهم في مناخات واعدة.

ثالثًا: تعد دولنا ضمن الدول الأقل سكانًا مع دخلٍ اقتصادي عالٍ ولكن أيضًا بطالة مُستشرية في أوساط المواطنين، بينما تزيد أعداد الوافدين العاملين، وهي مُعادلة متناقضة جدًا، فكيف لنا بناء اقتصاد قوي دون استقطاب قوى بشرية أكبر وتسهيل الإجراءات للاستثمار والقدوم والإقامة وحتى التجنُّس؛ فنظرية تحجيم السكان ومنح الأولوية للمواطن في خيرات بلاده لم تُحقق نجاحًا على أرض الواقع في ظل البطالة المرتفعة والغلاء الفاحش واستحداث الضرائب ورفع الدعم عن الخدمات، وهنا لا بُد من الانفتاح بشكل أكبر على الأسواق المجاورة والعالم، علّها تُعالج الأزمة التي نعاني ولم نجد لها حلًا في الداخل، ولا مانع من اقتباس التجارب الناجحة في البلدان الأخرى.

رابعًا: ما تزال النخب المالية القديمة الجديدة هي المتحكمة في السوق، وهي في الحقيقة عبارة عن أُسر وعائلات ثرية يُمكن عدها على أصابع اليد الواحدة، في كل دولة من دولنا، استفادت من خيرات البلاد عبر المناقصات المليونية والمليارية، وتمارس- للأسف- نفوذًا ماليًا فجًّا، من خلال التحكم في المصارف وشركات التمويل وخدمات النفط والغاز والخدمات اللوجستية وصولًا إلى الأسواق الاستهلاكية. وثقافة هذه المجموعة الضيقة من التجار القُدامى تقوم على الجمع والخزن والتحويل للخارج؛ فهُم لا يثقون بالأوضاع الاقتصادية في بلدانهم؛ بل يرونها ساحات لكنز الأموال فقط، بينما نجد مشاريعهم عامرة في بلدان أخرى، ويصرفون دون حدود فيها. فهل تستطيع الحكومات إعادة غربلة هذا الواقع الذي يُعيق حركة تقدُّم هذه الشعوب أم أصبحت هي شريكة فيه؟

خامسًا: هذه الكهانة المالية التي تَعِد بالفقر تسببت سياساتها وقراراتها في دفع شباب إلى تصرفات غير قانونية وربما ارتكاب جرائم، وحتى الإلحاد والانتحار؛ فاليأس أطبق ببراثنه على البعض؛ حيث نرى خريجين يتكدسون في البيوت بعدما أُغلِقَت أمامهم كل الأبواب إلّا باب واحد وهو التوسُّل لشركات الأثرياء للحصول على وظائف لا تليق بما يحملون من خبرات وما هم مدججون به من وطنية وولاء غُذِّيَت بها عقولهم طوال عقود من التعليم؛ ليجدوا أنفسهم على رصيف الوطن في عربات يبيعون السمبوسة واللقيمات على المارة. وهذا الواقع غير صحي ويجب التحوط من تبعاته على المدى القصير والمتوسط.

سادسًا: هذه الكهانة منحت تخديرًا موضعيًا لاقتصادات الدول عن طريق صكوك الثقة المالية التي تمنحها شركات تتبع للنظام الرأسمالي العالمي، وتعتمد على تقارير صندوق النقد والبنك الدوليين، وهي في الحقيقة موجهة لتعمق واستحواذ شركاتهم وتغولها في بلداننا ونهب ثرواتها، فقد عادت لنا بوجه جديد لما كان يُعرف سابقًا بشركات الهند الشرقية وهي شركات استعمارية، ومن ضمن أهدافهم الخبيثة غير المعلنة زعزعة استقرار الدول، إذ إنهم يعلمون تمامًا أن البطالة والفقر يستببان في أوضاع اجتماعية غير آمنة.