مستقبل دولة الاحتلال بعد الحرب على غزة؟

 

د. عبدالله باحجاج

وقفتُ مُترددًا في الربط الزمني لاستشرافاتي للمآلات المُستقبلية لدولة الاحتلال، وخاصة مكونها الديموغرافي الذي أتى به من كل بقاع العالم، ليُشكِّل أهم أركان دولتهم المُصطنعة، وهو السكان، فهل تكون النهاية بدأت منذ انطلاق "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023، أم بعد نهاية الحرب الوحشية للصهاينة على غزة؟! وهي نهاية تغرق الآن في صراع الإرادات والأجندات، وليس لها أفق زمني محدد، وكل ما هو معلوم أن هناك إكراهات على الصهاينة والأمريكان تُجبرهم على وضع حدٍ لهذه الحرب، ليس من حيث مآسييها الإنسانية، وإنما لحسابات ليست في صالح الصهاينة والدول الداعمة لها؛ فاستقر الرأي بنا على العنوان أعلاه؛ باعتبار أن مرحلة نهاية الحرب أخطر من مرحلة الحرب ذاتها.

في مرحلة نهاية الحرب ستدخل كل سلطات الاحتلال في مُحاسبة بعضها البعض، كما ستبرُز التداعيات الوجودية على ديموغرافيتها في ضوء ما أحدثه طوفان الأقصى والحرب من رعب يُفرغها من محتواها؛ كركن أساسي من أركان دولة الاحتلال، وهذا سيكون من أهم نتائج طوفان الأقصى والصمود الباسل لغزة طوال شهور الحرب المُتواصلة، فإذا كان طوفان الأقصى بمثابة زلزال هزَّ دولة الاحتلال في ظاهرها وباطنها، فإنَّ نجاح المقاومة في غزة وصمودها الطويل، وتداعيات الحرب على العامل الديموغرافي لهذا الكيان، قد سبَّبت له الهزيمة السيكولوجية وحالة عدم الأمان المستدامة، ويكتشفون الآن أن فلسطين ليست أرض الميعاد كما سُوِّقت لهم منذ 1948، وإنما هي أرض مماتهم عاجلًا أم آجلًا. لذلك يستوجب عليهم الرحيل عنها. وبعد نهاية الحرب لن تتمكن الصهيونية من إقناع اليهود بأنَّ فلسطين ستكون وطنهم الآمن، أو أنه يمكن أن تؤسِّس لهم كل مقومات الحياة الطبيعية والآمنة في يوم ما، وكل من يُصِر منهم على البقاء سيعيش في كابوس الحرب ورعب بسالة وشجاعة رجال المقاومة/المجاهدين، ولن يتحملوا البقاء طويلًا إذا كانوا الآن يتعاطون حبوب النوم؛ لذلك العودة من حيث أتوا أو البحث عن مكان آمن لهم سيكون خيارهم القادم لا محالة.

ويدعم هذا الاستشراف ما تذكُرُه المصادر الصهيونية الرسمية نفسها، وسنبدأ بمناشدة العائلات لأبنائها الجنود قائلة "ألقوا سلاحكم.. وعودوا لمنازلكم"، وهذه العائلات تتهم الحكومة الصهيونية بخيانة مواطنيها، وهذه المناشدة والاتهام يأتيان في زمن الحرب، فكيف بعد أن تضع الحرب أوزارها؟

في آخر استطلاعات الرأي، أفادت أغلبية الشباب أنهم يفضلون الموت عن الخدمة في قوات الاحتلال؛ لذلك يلجأ جيش الاحتلال إلى المُرتزقة تحت الإغراء المالي، ومن يكون دافعيته المال لا عقيدة القتال المشروعة، فهل سيحقق النصر مُستقبلًا؟

وإذا ما تعمَّقنا كذلك في ما تذكره المصادر الصهيونية الرسمية من تداعيات طوفان الأقصى وصمود رجال المقاومة الباسلة رغم الحرب الوحشية المستخدمة فيها الأسلحة الفتاكة وقنابل متطورة، سنجد استدلالات أخرى ومن الوزن الثقيل التي نبني عليها استشرافاتنا لدولة الاحتلال بعد الحرب؛ إذ تتحدث عن ارتفاع حاد في الإصابات بالأمراض العقلية والنفسية وحالات انتحار بين الجنود الصهاينة. وفي دراسة استعرضتها القناة 12 الإسرائيلية، أشارت إلى أنَّ أكثر من 520 ألف شخص في إسرائيل تعرضوا لـ"اضطراب ما بعد الصدمة" وبحاجة لرعاية وعلاج، فيما قالت القناة 11 الإسرائيلية  إنه "من بين نحو 70 ألف مُعاق في قوات الاحتلال من جميع الأنظمة الإسرائيلية الذين يتم علاجهم في جناح إعادة التأهيل، هناك 9539 يعانون من ردود أفعال ما بعد الصدمة والعقلية".

فيما ذكرت صحيفة "هاآرتس" العبرية أن الجنود الذين أصيبوا في معارك غزة يعانون من صدمات نفسية صعبة وكوابيس مزعجة. وقد اعترف جيش الاحتلال أن "نسبة الأشخاص الذين يُعانون من صعوبات في النوم، ارتفعت من 18.7 بالمئة الصيف الماضي، إلى 37.7 بالمئة؛ أي بزيادة 101 بالمئة". وأوضح أنَّ "الإبلاغ عن المعاناة من ضغوط عالية ارتفع إلى 43.5 بالمئة أثناء الحرب، بزيادة نحو 78 بالمئة".

وكشف تقرير صادر عن "المعهد الوطني لأبحاث السياسات الصحية" في إسرائيل عن تخوف من الآثار النفسية والصحية على عقول الجنود الذين تأثروا بالمعارك من نقطة صفر مع مُقاتلي "حماس"، إلى جانب تعرضهم للصدمة؛ جرَّاء حوادث القتل الخطأ التي تعرض لها الجنود على أيدي زملائهم مرات عدة. وكشف المعهد عن صورة قاتمة لآثار السابع من أكتوبر الماضي، على الصحة العقلية والنفسية للإسرائيليين. وقال المجلس الإسرائيلي للصدمات إنِّه قد يُصاب ما بين 60 و80 ألف شخص بأعراض تخلُّف عقلي خطّي ومستديم، بسبب الصدمة من الهجوم المفاجئ والحرب، كما سيُصاب ما يصل إلى 550 ألف شخص بأمراض وأزمات نفسية مُتفاوتة، واستعرض إيدو لوريا رئيس جمعية الصحة العقلية بيانات تتوقع أن يُعاني ما يصل إلى 625 ألف شخص في إسرائيل من أضرار نفسية، نتيجة هجمات "حماس" والحرب التي أعقبتها على قطاع غزة.

وقد أصبح مُعظم اليهود داخل فلسطين المحتلة يطرح الآن التساؤل التالي: هل لنا مُستقبل في فلسطين؟ الإجابة بدت واضحة الآن، وهي تكمن في هجرة العلماء والأطباء والمهندسين الذين أتوا من كل أنحاء العالم. ومن مفارقات التداعيات، أنه من كان يشجع بالمال والجهود على الهجرة اليهودية إلى فلسطين المحتلة أمثال المليادير الأمريكي اليهودي موردخاي كالاهان تحولوا إلى تشجيع الهجرة العكسية، وهو يرفع الآن شعار "لنغادر البلاد معًا" كما قام الأطباء بتأسيس جمعية أطلقوا عليها "أطباء من أجل الانتقال".

كل ما قدمناه باختصار يضعنا أمام ملامح أساسية لمستقبل دولة الاحتلال من الداخل، وإذا كان هذا يحدث الآن قبل نهاية الحرب، فماذا ستكون التطورات بعد الحرب؟!

مؤشرات التآكل الديموغرافي واضحة، وتعطينا المشروعية التحليلية في إصدار الأحكام لما بعد الحرب ليس وفق ظاهرة "التكامل والتآكل" لحركة التاريخ وحركة الحياة التي ترى أن أي دولة أو قوة لن يتسنّى لها الاستمرار في الصعود، كما لا يتسنى لها البقاء في القمة أمدًا بعيدًا، وإنما لأن "طوفان الأقصى" قد كشف ضعف هذا الكيان من داخله رغم حمايته من دول كبرى، ولم يواجه تحديًا كبيرًا إلّا في السابع من أكتوبر 2023، وأصبح سقوطه حتميًا من الداخل، بعدما تقاطع معه ارتكابه لجرائم وابادات إنسانية جماعية.

مظاهر التآكل ليست داخليًا فقط، وانما إقليميًا ودوليًا، فقد رأينا تعاطف الشعوب والأنظمة الحرة في كل قارات العالم مع القضية الفلسطينية عامة، ومع غزة خاصة، فهل من الحكمة أن تُراهن الأنظمة العربية على السلام مع هذا الكيان أو دخوله ضمن منظومة أمنية إقليمية؟ هذا الكيان بات فاقدًا للأمن والأمان، وفي طريقه لاستدامته، فلا رهان عليه، وبعض الأنظمة ما تزال مُصِرَّة على علاقتها الاستراتيجية مع الكيان، والذهاب بها بعيدًا رغم مآلات ضعفِهِ الراهنة والمستقبلية، ولو على حساب قوتها الناعمة. فهل هذا يعني أنها وصلت إلى مرحلة اللاعودة حتى تربط مصيرها بمصيره؟!