د. عبدالله باحجاج
هزَّت مأساة العامرات الوجدان الوطني على كل المستويات بوفاة أسرة كاملة مكونة من 6 أشخاص وجنين في بطن أمه نتيجة استنشاقهم غاز أول أوكسيد الكربون أثناء نومهم، قيل إنه ناتج عن تشغيل مولد كهربائي بديلا عن الكهرباء المنقطعة عنهم، وهذه المأساة وما صاحبها من ردود فعل مختلفة عاطفية وموضوعية، أنتجتْ حكمةً واقعيةً، وهى في جوهرها تقتضي الاعتراف بتداعيات التحولات المالية والاقتصادية على المجتمع، وأن هذه التداعيات تعمقت كثيرًا في البنيات المجتمعية، وأنها أيضًا تقف وراء حِدِّية بعض الأطروحات التفاعلية مع المأساة وسرعتها ومساحات انتشارها، حتى دون التريث لمعرفة التفاصيل الصحيحة، أي أنها انطلقت من هموم معيشية حقيقية.
لا ننكر أن بعض التفاعلات وراؤها أجندات ملونة، استغلت منذ الوهلة الأولى الرواية التراجيدية غير الرسمية للمأساة، وسيَّسَت المشاعر وعبَّأت المواطنين، ولا غرابة أن تتقاطع معها أجندات خارجية وظفتها سياسيًا. وهذه التجربة في فصلها المأساوي تُعطينا الحق أن نبني عليها تحصين الذات؛ لأن الإكراهات لن تتوقف عند هذا التوظيف السياسي للمأساة، وإنما ستكون من ملامح مرحلتنا المقبلة؛ سواء بمبرراتٍ أو دونها، لأن أي تفكير استشرافي لمرحلة "ما بعد غزة" سيكشف حجم المخاطر الوجودية للدول العريقة التي لم تتنازل عن مبادئها وقيمها، وتمتلك مقومات جيوسياسية واقتصادية استراتيجية.
لذلك.. نراهن هنا على تغليب الحكمة الواقعية بعد هذه المأساة؛ لأن ذلك الاستشراف لا يمكن مواجهته إلّا بحلولٍ غير تقليدية، والتفكير غير المتوقع الذي يسبق الأحداث قبل وقوعها، ويعمل للحيلولة دون وقوعها، وذاك عبر فهم السياقات وتوقع تداعياتها. فمثلا اعتماد آلية "مُسبق الدفع" للمواطنين والوافدين على حد سواء في استحقاق خدمات المياه والكهرباء، يعني بديهيًا أن أمام المواطن خيارًا واحدًا فقط، وهو "الدفع المسبق أو الظلام"! وهي آلية لا تترك للمواطن أي فترة زمنية لتدخلات غير ذاتية قبل قطع الخدمة. صحيحٌ هذه الآلية اختيارية وليست إلزامية، لكنْ علينا البحث عن الأسباب التي تدفع بعض المواطنين إليها، سنجدها أسبابًا مالية، ونُضيف إليها كذلك أن الإنسان/ المواطن قد يتحمل ضيق العيش وقسوة التقلبات، لكنه لن يتحمل المساس بكرامته أو النيل من سمعته؛ لذلك يظل يعاني حتى في أحلك الظلام- مأساة العامرات نموذجًا- وغالبًا لن يلجأ لغنيٍّ ولا لجمعيات خيرية لتُضيء له الأنوار في قلب الظلام.
هنا نتساءل: هل آلية "مُسبق الدفع" تضمن للمواطن استدامة خدمات الكهرباء والمياه؟ والتفكير المسبق يقودنا هنا إلى استشراف الأثر المترتب على هذه الآلية، وهي حدوث الظلام لا محالة، وهذا يُدخلنا إلى مجموعة إشكاليات قد تحدث للأسر حسب ظروفها الخاصة، وهنا نُطالب بإلغاء آلية مُسبق الدفع للمواطنين؛ فهذه الآلية لا تستقيم مع مفهوم المواطنة أبدًا، ولها تداعيات على سيكولوجية كل أفراد الأسرة الواحدة، وقد تؤسس فيهم مشاعر الدونية، مقارنة بالأسر المجاورة أو الأبناء الذين يُعايشونهم في المدرسة أو الأحياء.
نتفهم من حيث المبدأ، قضية استدامة الإيرادات، لكن في المقابل، ينبغي أن يكون دون الإخلال بالبُعد الاجتماعي للخدمات العامة الأساسية، وحتى نظام "يُسر" لتقسيط عملية الدفع لم يصل إلى كل المواطنين، فإعلامنا تنقُصه التفاعلية المهنية مع كثير من قضايا الوطن والمواطن، لذلك، فإن هذا النظام لم يصل للكل، والقلة التي وصلها خبر النظام، منها لم يكن في متناولها التعامل مع الخدمات الإلكترونية، إمَّا لعامل السن أو لظروفهم المالية؛ لذلك الاستفادة محدودة من تقسيط الفواتير على 12 شهرًا، رغم أنها تمنح ميزة التقسيط دون دُفعة مقدمة، والأُسر التي تعجز عن الدفع لأسباب مالية، كيف لها أن تستفيد من تسهيلات الدفع عبر نظام "يُسر"، وهي أصلًا لا تتعامل مع الخدمات الإلكترونية؟
ينبغي أن نتأمل في هذه القضية من زوايا أعمق، خاصة من زوايا التقلُّبات التي طرأت على الأوضاع المالية للأسر مثل: التقاعد الإجباري، والباحثون عن عمل، والمُسرَّحون من أعمالهم، والخفض التدريجي لمخصصات الدعم عن خدمات أساسية، وغلاء المعيشة، وضرائب ورسوم، كلها تُنتج لنا فوق السطح الآن عجزَ أُسرٍ عن دفع فاتورتي المياه والكهرباء بعد ارتفاع أسعار هاتين الخدمتين، في ظل خفض الدعم الحكومي تدريجيًا، فكيف لو أُلغي الدعم بالكامل؟ ولن نبالغ إذا ما قُلنا إن فاتورتي المياه الكهرباء أصبحت تشكل هاجسًا وطنيًا مرتفعًا عند الأغلبية من المواطنين، نلمس ذلك في نطاقنا الشخصي والاجتماعي العام معًا!
ولو كان هناك مركز دراسات مستقل سيُزوِّد صُنَّاع القرار بمدى ثِقل فاتورة خدمات أساسية كالكهرباء والمياه على كاهل الأغلبية من المواطنين، ونستشرف أن تظهر فوق مشهدنا كقضية تُنذر بتحولها من مطلب معيشي إلى احتقان اجتماعي، إذا لم تدار بسياسات توازن بين كلفة الخدمة وقدرة المواطنين على الدفع.
ونرى من الحكمة الواقعية أن ندخل في تقييم وتقويم المَسِير، وقد ذكرنا في مقالات سابقة أن مرور أكثر من 5 سنوات على مسيرنا المتجدد وما تحقق من خلالها من إنجازات كبيرة في مختلف المجالات، وبالذات الدين العام والعجز المالي للدولة، وصناعة إيرادات جديدة إلى جانب تحسين إيرادات الدولة التقليدية، وكل الاستشرافات التي وقعت وستقع تُعلي من شأن هذا المقترح، ويُزكِّيها ما كشف عنه الدكتور أحمد بن محمد السعيدي وزير الصحة السابق (في "بودكاست هُدهُد" الذي تبثه جريدة الرؤية) من حقائق لأول مرة، وهى التي تقف وراء التفكير الاستراتيجي لمقال اليوم بسياقه الوطني العقلاني؛ فطبيعة المفردات التي استخدمها الدكتور السعيدي ينبغي أن تقود إلى صناعة وعي سياسي للحقبة الراهنة؛ إذ تعكس دلالات سياسية عميقة، واستنطاقات وطنية تتلاقى مع قضية التحولات الداخلية في بلادنا التي تُنتج مجموعة استياءات متصاعدة.
الدكتور السعيدي يكشف صراحةً عن المعاناة الصامتة لبلادنا أثناء أزمة كورونا في نوفمبر 2020، قائلًا "إن ما يُسمى بأصدقائنا تخلُّوا عنا تمامًا؛ بل رمونا"، ودخلوا فيما وصفه وزير الصحة السابق في الأنا الاستفرادية، وذلك عندما استخدم مفردة "نفسي نفسي"، وهذه الواقعة قريبة جدًا، وهي- إضافة إلى تداعيات مأساة العامرات- تضعنا في قلب إعلاء الحكمة الواقعية التي لا ينبغي أن تتنكر للتداعيات الاجتماعية البنيوية التي تحدث نتيجة التحولات المالية والاقتصادية، ولا تتجاهل استشرافاتها المقبلة، وتجعلنا نستفيد من مرحلة خذلان الأصدقاء والحلفاء، فمن خذلنا بالأمس في أزمة وجودية، سيخذلنا مجددًا، وربما يعمل ضدنا مع من يدفع له كثيرًا إذا ما كانت له أطماع جيوسياسة؛ لذلك نكرر حاجتنا الوطنية العاجلة إلى الآتي:
- تقييم وتقويم عاجل لمنظومة الإصلاحات، ومراجعة لمسارات التحالفات والعلاقات.
- إعادة تقييم الاعتماد الاستراتيجي على الخارج؛ مما يحتم اللجوء المنهجي لصناعة أهم ما نحتاج إليه عبر تسريع برامج الاكتفاء الذاتي، بما فيها الدواء والغذاء.
- وضع خطة عاجلة لحل قضية الباحثين والمُسرَّحين، تكون كفيلة بفصل المجتمع عن الأفكار السياسية المتصاعدة والمتعاظمة، ودونه ستتقاطع الأبعاد بما فيها الاجتماعية، وسيكون الثمن مرتفعا.
- ربط الأمن الشامل بالتنمية المستدامة، وهنا، نقترح إنشاء وحدة وطنية للتكامل الأمني والتنموي المستدامين، وتكون ضمن منظومة تنفيذ خطة التنمية الخمسية الحادية عشرة (2026- 2030).
- التنسيق بين الجهات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وإعداد سجل وطني للمخاطر، وربط الأمن بالتنمية وبالذات بفرص العمل والراتب الآمن، فكما يقال إن الأمن الشامل شرط للتنمية للشاملة، والعكس صحيح، وقد أصبح تحقيق التكامل الفعّال بين بين الأمن الشامل والتنمية المستدامة من بين أكبر التحديات الوجودية للدولة.
- الارتقاء بمنظومة الإعلام من حيث التفاعل والمشاركة في قضايا الوطن، كمأساة العامرات.
- ضخ دماء وطنية جديدة تختار ممن تتوفر فيهم أهم عنصرين أساسيين وهما: الخبرات والوعي السياسي، ويكون من أهم أولوياتها كسب الرضا الاجتماعي، ورفع التفاؤل، والإسراع في صناعة الاقتصاد الإنتاجي المُعزِّز للإيرادات المستدامة وصناعة فرص عمل نوعية وكمية، إلى جانب تعزيز مكتسبات مسيرتنا المتجددة التي تحققت في كل مفاصل أساسية في الدولة.
