"راشومون".. لا حقيقة مُطلقة!

 

مدرين المكتومية

"الحقيقة نسبية"، هكذا علّمتنا الحياة والمواقف، ورسَّختها في الوجدان الكُتب والممارسات الفعلية على أرض الواقع، لكن رغم ذلك ما يزال البعض يعتقد أنه يملك الحقيقة المُطلقة، وأنه لا يجب أن يُناقشه أحد فيما يقول ويستعرض من أمور، حتى لو بدا للجميع أنها ساطعة مثل الشمس، إلّا أن المؤكد أنها ليست مُطلقة مهما جادل هذا أو ذاك.

النسبية قضية قديمة مُتجددة في الأدبيات والفلسفات المُختلفة، وعبّر عنها كثيرون، سواء في العلوم الإنسانية، أو العلوم الفيزيائية، ليتأكد لدى كل ذي لُب أن الحقيقة المُطلقة ليست سوى وهم وسراب، يراه من يعتقد أنَّه يملكها، ولو أمعن النظر وتفكّر فيما يقول لآمن بنسبية الحقائق. بالتأكيد كُلنا قرأ قصصًا أو شاهد أعمالًا فنية تعكس هذه القاعدة المعرفية، فكم من رواية تناولت نسبية الحقيقة، كم من عمل أدبي تطرق إليها بالاستعراض والنقد، وكم لوحة فنية حيّرت كل من يراها لفهم أبعادها المُختلفة.

على المستوى الشخصي، قبل سنوات نصحني أحد الأصدقاء بمشاهدة فيلم ياباني قديم اسمه "راشومون"، يعود تاريخ إنتاجه إلى منتصف القرن الماضي، ويعد من أوائل أفلام السينما اليابانية، ويستعرض رؤية فلسفية لمفهوم الحقيقة النسبية في إطار بوليسي تشويقي. الفيلم الذي أخرجه المخرج الياباني الكبير أكيرا كوروساوا، يُعرف بحبكته العجيبة التي تتحدث عن شخصيات مختلفة تسرد نفس الواقعة، ولكن بصور متباينة بل ومتناقضة، إلّا أن هذه الصور ترسم للمشاهد "الحقيقة الكاملة" الخفيّة عليه وعلى أبطال الفيلم!

فيلم "راشومون" يُذكرني بالكثير من المواقف التي تمر على ذاكرتي، وبالكثير من المواقف التي مررت بها مصادفة، لكنها قادتني دومًا لأن أُدرِك أن الحقيقة في كثير من الأحيان يمكن إخفاؤها، ويمكن أيضًا محاربتها، ويمكن أن تزج بآخرين في السجن، وتنتهي مسيرة حياة حافلة لأحدهم، فقط لأن هناك من دنَّس الحقيقة.

مفهوم الحقيقة صناعة تحتاج لشخص لا يمكنه الكذب، كما تحتاج لشجاعة تقبلها كذلك، فكل حقيقة تختلف عن الأخرى من حيث وقعها وطبيعتها وتأثيرها وارتباطها بالأشخاص، ولولا تلك الاختلافات لما سمعنا عن تلك المقولة الشهيرة "يا ما في السجن مظاليم"!

وبالعودة إلى راشومون، فإنَّ قصة هذا الفيلم العجيب تدور حول جريمة قتل تحدث في إحدى الغابات، وتتورط فيها مجموعة من الأشخاص من بينهم الحطّاب الذي كان شاهد عيان على الجريمة، لكنه قدّم شهادة يدّعي فيها أنها صادقة، وبعد خروجه للمكان وبسبب الأنواء المناخية يدخل ليحمي نفسه في أحد المباني القديمة المهجورة، ليلتقي صدفة بأحد الرهبان، ويدور بينهم حديث حول الجريمة، حتى يعترف له الحطّاب بأنه قدّم شهادة زور أمام المحكمة، ومن ثم يبدأ بسرد القصة الحقيقة له.

وعلى الرغم من أنَّ هذا الفيلم قد مرّ على إنتاجه أكثر من 70 عامًا تقريبًا، إلّا أنه يُقدِّم قصة رائعة عن "نسبية الحقيقة"، وهو أيضًا ما يجعلنا نقول إنه "لا أحد يملك الحقيقة المُطلقة"؛ لأن الحقيقة الوحيدة التي نقف عندها كبشر هي "الموت والحياة"، والتي لا يُمكننا أن نتكهّن بحدوثها أو نستكشف ماهيتها، ولا أحد يستطيع أن يُجادل حول حقيقة الموت ولا الحياة.

ويُمكن أن نُطبِّق هذا النظرية في كل شؤون حياتنا، العملية والشخصية، ولا سيما في مجال مثل الإعلام والصحافة؛ حيث لا وجود لحقيقة مُطلقة، كلها حقائق نسبية، ربما تتغير بتغيُّر أي من العوامل المحيطة بها. ولذلك من أوائل الدروس التي نتعلمها في مهنة الصحافة تحرّي الدقة والموضوعية، والتأكد من مصدر المعلومة التي نكتبها أو ننشر عنها، لأن كل كلمة محسوبة علينا، وربما تغيِّر مسار أحدهم هنا أو هناك!