صاحب السمو السيد/ نمير بن سالم آل سعيد
إذا تعرَّضت لتجاهل وإهمال من قبل شخص معين كان يُوليك اهتمامًا، فهذا وارد ومفهوم؛ لأنَّ الناس أحوالهم وأمزجتهم وظروفهم متقلبة لا تبقى على حال، ولا بأس أن تُهمِله أيضًا كما أهملك وتتركه إذا تركك، "ولا تُكثر عليه التأسُّفا؛ ففي الناس إبدال وفي التَّرك راحة"، والدنيا واسعة لا تضيق على أحد، وإذا عاد معتذرًا عُد مُسامحًا. هذا على مستوى العلاقات الشخصية.
أما كيف إذا كان من أهملك ليس بصديق أو قريب أو حتى غريب؛ بل أقرب من في الكون إليك؟! وهي نفسك، وأهملت نفسك بنفسك. لكن هل بالإمكان أن يُهمل الإنسان نفسه بنفسه؟! نقول: نعم، وهذه من أشد المصائب التي بالإمكان أن تحيق بالإنسان في حياته أن يهمل نفسه بنفسه. وإهمال النفس قد يأتي من ضعف الوازع الديني، والابتعاد عن العادات والتقاليد، وتبنِّي الأفكار المستوردة السيئة الدخلية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فتستدرج إلى التمرُّغ في فساد الأخلاق في بئر الضياع الآسن الذي لا انتشال منه.
إهمال النفس أيضًا قد يُصاب به الفرد في فترة مبكرة من العمر نتيجة اختلاطه بأصدقاء السوء المستهترين بقيمة حياتهم ومستقبلهم، فتسرِي العَدْوَى إلى من يُصاحبهم فينغمس معهم في انغماساتهم السلبية الضالة، ويهمل ذاته في ردعها وردها إلى جادة الصواب. وفي الجانب المقابل، لا يجد الاهتمام والمتابعة، ولا النصح والإرشاد من ذويه المنشغلين بحياتهم.
وإهمال النفس كذلك بالإمكان أن يأتي نتيجة الإحباط وعدم القدرة على تحقيق الذات لأسباب اجتماعية واقتصادية؛ فيصيب الشخص نفسه باليأس ظنًا منه أنْ لا مخرج له مما هو فيه من أوضاع معيشية صعبة. وبدلا من السعي والمحاولة الدؤوبة لتحسين الأوضاع لنفسه -حسب الإمكانيات المتوفرة- يلجأ إلى اللامبالاة وإهمال الذات ليحدث ما يحدث، فيلاقي بذلك المصير المؤلم الأكثر شدة والأصعب معاناة مما هو فيه.
وكذلك في الجانب الآخر: إهمال النفس يُصاب به الشخص من الدلال الزائد والدلع من بعض أولياء الأمور الأثرياء لأبنائهم، ليحصلوا على ما يريدونه تلبية لطلباتهم في ظل تنشئة عائلية خاطئة، وسرعان ما يصاب هؤلاء الأبناء المدللون بالملل، فلا يعد المتوفر من النعيم المُنغدق عليهم كافيا، فيرفع بعض هؤلاء الأبناء سقف مُتَعِهم وملذاتهم إلى درجة الممنوعات والمحرمات؛ فيُوقعهم ذلك في الإدمان؛ وبالتالي الضياع؛ فيدخلوا في مجال الإهمال الذاتي غير المُكترث بحياتهم لغياب وعيهم المتلاشي في ملذاتهم الآثمة المضرة.
إهمال الذات إذا حدث، فلن يعود المُهمل قادرًا على تدبُّر أمره كفرد صالح في المجتمع، وستنقلب حياته رأسًا على عقب، ولن يكون لديه نوم طبيعي منتظم، ولا نظام غذائي صحي، ولا برنامج رياضي ثابت، ولا حياة اجتماعية سوية، وستذهب صحته إلى تدهور؛ لأنه لم يهتم بنفسه، حين كان بالإمكان أن يهتم؛ بل أهملها وتركها تأمره بالسوء مُطِيعًا لها بكل ما تُمليه عليه، ظنًا منه أن ذلك سيخفف عليه ما يواجه من واقع لم يرتضيه، فوقع فيما هو أسوأ منه ليستوطنه الضياع في حياته. ويبقى متفرجًا على نفسه وما يحدث فيها، فاقدًا السيطرة على مجريات حياته، تعتريه الحالات النفسية السيئة؛ فينسحب من المجتمع إلى العُزلة، ويرفض التعامل مع البشر ويغلق أبوابه دونهم، ويظل سلبيًّا يُراقب من خلال وسائل التواصل ما يحدث، لعدم قدرته على المشاركة، ويذهب إذا ذهب إلى من هم على شاكلته ممن ضلُّوا الطريق.
فعلى الشاب أن يتجنَّب الإهمال الذاتي، ويحترس منه أشد الحرص، خشية الوقوع فيه مهما حصل، وأن يشغل نفسه بما هو مفيد وصالح لحياته؛ فمصلحته بحياة صحية أخلاقية سليمة، فإذا أهمل الشاب ذاته غير مكترثٍ بالعواقب الكارثية على نفسه، سيضيع حياته، ولن يبق له أي أمل ينتظره.
من المهم جدًّا أن لا يُطلق المرء العنانَ لنفسه دون تفكير وتدبير وتحكُّم عقلي موزون يكبح جماح النفس الإمارة بالسوء، لكي يفعل ما يريد متى يريد؛ فذلك هو الضياع. وأن لا يسمح لأحد أن يستدرجه أو يُغريه إلى طريق الضلال؛ فالحلال بيِّن والحرام بيِّن.
ونفس الإنسان هي الوحيدة التي لديه، وأهم ما لديه، وعليه تنميتها وترقيتها وإثراؤها بالعزة والكرامة والكفاح والصبر والتحمل، وأنْ يحميها من الأذى والوضاعة والضياع والذلة والضعف والمسكنة؛ لا أن يُهملها ويُلقيها في مهاوي الخراب والرَّدَى.