جامع السلطان قابوس الأكبر.. قوة ناعمة لتقريب شعوب العالم

 

د. عبدالله باحجاج

كُنَّا في مقالٍ سابقٍ نُشِرَ قبل شهر رمضان المُبارك بعنوان "مسقط وغزة.. وانكشاف كينونة الشعوب الأخرى"، قد أشرنا إلى أننا سنتناول دور جامع السلطان قابوس الأكبر في مقال، وربما أكثر، بعد أن اطلعنا- من خلال صديقنا العزيز المُفكر والباحث زاهر بن سيف بن سلطان المسكري- على الأدوار الاستراتيجية للجامع؛ فهو ليس مكانًا للعبادة ونشر العلم فحسب، وإنما يُقدم رسالة عالمية إنسانية، وهي التعريف بالإسلام لغير المسلمين.

وقوفنا على هذا الجانب، يجعلنا نربط دور جامع السلطان قابوس الأكبر بالأدوار الاستراتيجية للجوامع الإسلامية التاريخية، كجامع عقبة بن نافع، خاصة في مجال نشر الإسلام مع الأخذ بعين الاعتبار في هذه المقارنة اختلاف الأزمنة ووقائعها ومن ثم طبيعة الأدوار المُعاصرة. من هنا، يختلف مفهوم "الفتح" من حيث غرضه ووسائله؛ فالمفهوم الذي يتبناه الجامع الأكبر ناعمًا في وسائله وأدواته ومن ثم نتائجه– كما سيتجلى ذلك لاحقًا- وبالتالي تكون أدواره الاستراتيجية هي نفس الأدوار الاستراتيجية للجوامع التاريخية الإسلامية الكبرى؛ فنعومة وسائله وأدواته تميل إلى العقل عن طريق أدوات الإقناع، وامتلاكه الحجج الكاملة التي لن تختلف عليها البشرية التي لم تُسيَّس ولم تُحمل على التأطير السياسي العدائي تجاه الإسلام، أما العداء الفكري الخالص-كالملحدين مثلًا- فيمكن أن تخترقه أدوات الجامع الأكبر.

المُطّلع على النتائج سيُسلِّم بالمقارنة، وسيخرج بمدى حاجة الإنسانية العالمية للدور الاستراتيجي لجامع السلطان قابوس الأكبر، وسيكتشف كذلك عبقرية الإنسان العُماني المعاصر في إقامة هذا الجامع، وتأسيس مركز للتعريف بالإسلام، وجعله روح الجامع، وهنا لا بُد من أن نترحم على السلطان الراحل قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- الذي أراد من الجامع الأكبر أن يكون مركز إشعاع إسلامي إنساني عقلاني، يَبعثْ من مسقط للعالم كله، رسائل تجمع كل الشعوب، ونترحم كذلك على الشيخ سعيد بن ناصر المسكري الذي كان وكيلًا للإسكان ومن ثم أصبح رئيس مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم (المسمى الحديث)؛ إذ له الفضل في إقامة مركز التعريف بالإسلام وأن يكون تابعًا للجامع الأكبر. والجامع ومركزه الروحي هما من فتوحات العبقرية العُمانية التي تكاملت في ثنائية الذكاء والإبداع، وتُنتِج لبلادنا الآن قوة ناعمة تحقق نتائج مذهلة لوطننا وللإنسانية معًا.

ولكي نقترب من عبقرية إقامة الجامع الأكبر والمركز التابع له، وجعلهما يتماهيان في صناعة رسالة عُمانية مُعاصرة داخلية وخارجية، جامعة بين تأصيلها الديني التاريخي (وفق الحديث النبوي "لو أن أهل عُمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك") وبين دور العُماني الإسلامي- الإنساني المعاصر، نقول إن الجامع الأكبر قد تأسس لكي يكون تحفة فنية معمارية تاريخية فريدة جاذبة للسياح وزوار البلاد من مختلف جنسيات العالم، وبعد افتتاحه عام 2001، اهتدت عبقرية المسكري- رحمه الله- إلى تأسيس مركز للتعريف بالإسلام لكل من يزور الجامع الأكبر، واقترن بديناميكية حيوية مُنتجة للتأثير، وهي أساس النجاح. وتتميز هذه الديناميكية بالعلمية والعقلانية في المنهج التعريفي بالإسلام والخطاب المُعبِّر عنه، ووجود كفاءات عُمانية مُتخصصة وناضجة وواعية بالكينونة العُمانية وعاداتها وتقاليدها، وهذه الديناميكية تتبلور من خلال عدة مسارات؛ أبرزها:

  • فتح الجامع الأكبر لزيارة السياح والزائرين من الساعة 8 11 صباحًا كل يوم، ومن ثم تهيئة الجامع للصلاة، وهذا بناءً على توجيهات السلطان الراحل رحمه الله.
  • عقبها، يتم تحويل السياح والزائرين إلى قاعة لتعريفهم بالإسلام.
  •  التعريف بالإسلام يكون من منظور ذكي جدًا يتغلغل في القناعات ويُبهرها بالحقائق المُجمَع عليها؛ حيث ينطلق من أن الدين واحد، وأن الكتب التي أُنزِلَت قبل القرآن الكريم دُمجت أو نُسِخَت في القرآن، وأنَّ القرآن الكريم جاء جامعًا ومُصحِحًا ومؤكدًا على الكتب السابقة.

وهنا يشرح لنا المفكر والباحث زاهر المسكري، قائلًا إن "السلطان الراحل أراد من خلال الجامع الأكبر أن يبعث للعالم من مسقط برسالة أن الدين عند الله واحد، وأن كل المعتقدات؛ سواء المسيحية أو اليهودية أو البوذية أو الهندوسية.. نابعة من الإسلام". ويتساءل: ماذا يعني الإسلام؟ فيجيب قائلًا "هو الإذعان لله"، ثم يردف بالقول "إذا كان المسيحي واليهودي والهندوسي.. يذعنون، ويسلمون بأن هناك خالقًا، إذن، فجميع الكُتب التي أُنزلت قبل القرآن الكريم وُيروى أنها 103 كُتُبٍ، نزلت على الأنبياء من قبل، وتدعو إلى خالق واحد". ويضيف أن "القران الكريم قد جاء مؤكدًا على الكتب السابقة، ومُصححًا لما حرَّفه البشر فيها كالعبادات، ومُكملًا لها كالميراث".

وتتولى مسؤولية التعريف بالإسلام كفاءات متخصصة عُمانية بنسبة 85% كمتطوعين من الجنسين، وأغلبهم متقاعدون، ويجيدون 17 لغة عالمية؛ كالهندية والألمانية والأسبانية والإنجليزية والبرتغالية والإيطالية والتركية والكردية واليابانية والكورية.. إلخ. وكُل سائح يأتي لزيارة التحفة المعمارية للجامع سيجد من يتحدث معه بلغته، وهم ليسوا دُعاة وإنما يُطلق عليهم مُعرِّفين بالإسلام، وهي تسمية دلالاتها واضحة، وهي التعريف المُجرَّد من التسييس والتشطير؛ لأن الغاية هنا نبيلة، ونُبلها تجلى كما هو سابقًا في تصويب المسار لأهل المعتقدات بعقلانية الأدلة الدينية.

النتائج مُبهرة، وتدعو للفخر والاعتزاز بالعبقرية العُمانية وبكفاءاتنا المتخصصة في كل المجالات، مثل الدكتور خليفة المسكري الخبير المخضرم في كُتب الإنجيل... إلخ، وذكره هنا حصريًا للاستدلال على نوعية التخصص والرهان على العامل العلمي ودوره في الإقناع، ولن نستغرب إذا ما عرفنا أنَّ من نطقوا بالشهادة في عام 2023 قاربوا 545 شخصًا من مختلف الجنسيات، مع ما يصاحبها من مشاهد درامية تراجيدية كالبكاء من شدة التأثير الروحي والوجداني، وأضعافهم أي ما بين 7 إلى 10 آلاف تأثروا بالإسلام أو غيروا نظرتهم عنه، وبعد عودتهم لبلدانهم يُعلن الكثير منهم إسلامهم. ويذهل المرء عندما يعرف العدد الكبير الذي يزور الجامع الأكبر يوميًا، ففي أحد الأيام، زاره ما يقارب 12 ألف سائح في ثلاث ساعات فقط، وسنويًا يزور بلادنا الملايين.

هذه التجربة العُمانية تحتاج إلى تطوير مُتجدِّد في الأشخاص المستهدفين، وفي مرافقها المحدودة، خاصة وأننا يمكن القول الآن، إنه لدينا تجربة في التعريف بالإسلام أكثر من 21 عامًا، وهي ناجحة بامتياز، وتطويرها يهدف إلى ضمانة النجاح وحسب ما تقضيه دواعي النجاح نفسه، وما تظهره من آفاق جديدةـ ومن هذه الأخيرة، يظهر أن داخلنا في أمس الحاجة إليها الآن أكثر من أي وقتٍ مضى؛ ففي جوانب التجربة التأطيرية الراسخة تُجيب على الكثير من الأسئلة التي أصبحت تتغلغل في ذهنيات الشباب المسلم خاصة حول: من هو الله؟ وما هو سبب وجودنا في الحياة؟ وما هي المآلات في حالتي الإيمان من عدمه؟

وكل شاب مسلم يحتاج لترسيخ إيمانه بمثل هذه القضايا؛ فهناك أجندات مُمنهجة تعمل على التشكيك فيه، وتُنتِج الخواء الفكري في الأجيال الجديدة، مما ينعدم معه التصور الصحيح للحياة وما بعدها من مآلات؛ لذا فإن دور الوعي العُماني- هنا- يتمثل في مِلء الفراغ الفكري بالثوابت المجمع عليها بعيدًا عن الخلافات والاختلافات. والخواء الفكري المقصود هنا، هو خلو العقل والفكر مما ينفع ويفيد، أي ليس خلوًا ماديًا خالصًا.

لذلك من الأهمية أن ينفتح المركز كذلك على الداخل، وبالذات على الطلبة المبتعثين للخارج، وطلاب الجامعات، والمرشدين السياحين الذين هم مداخل الجذب الأولى، أو العكس، وقد اطلعنا على حالات تأثرت بالمعاملة العُمانية "لو أن أهل عُمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك"، وكانت مدخلًا لتغيير معتقداتهم الخاطئة؛ علمًا بأن هناك بعض المؤسسات المختلفة داخل البلاد يستفيدون من المركز.

ومن الأهمية ذاتها، افتتاح فروع لمركز التعريف بالإسلام في جوامع السلطان قابوس في بعض المحافظات، وبالذات تلكم التي يكثُر توافد السياح والزائرين عليها؛ لأن رسالتها وُجدِتْ لتصل إلى أكبر عدد ممكن من غير المسلمين يزرون البلاد، وبعض المحافظات يزورها بالآلاف. لذلك.. فإن مسالة الفروع من الخطوات المُهمة في تطوير التجربة، كما إن التطوير ينبغي أن يشمل مرافق مركز التعريف بالإسلام؛ فهي لم تعد تستوعب انطلاقة التجربة أصلًا، فكيف بها الآن وقد أصبحت تجربة مُنتجة للتحولات الذهنية المصيرية، وتعد إحدى القوى العُمانية الناعمة الواعدة التي تدعم المنظور الحضاري لبلادنا، أسوة بما تقوم به دبلوماسيتنا العُمانية الناعمة الداعمة للعدل والمدافعة عن حقوق كل مظلوم.

مطالبتنا بالتطوير تنبع من كون تجربتنا الناجحة في تصحيح المعتقدات تُحمِّلنا كعُمانيين مسؤولية التقريب بين الشعوب في معتقداتهم، لكي نوصل لهم رسالة أن الدين واحد والخالق واحد، والأنبياء كلهم مسيرة واحدة، وآخرهم سيدنا محمد- عليه أفضل الصلاة والسلام- لاستكمال بُنيان هذه الدين الذي يحتويه القرآن الكريم، ليس لأننا الوحيدون الذين يملكون الأدلة العقلانية، وإنما لأن كل حواس الآخرين لا تنفتح إلّا لنا للوصول لقناعاتهم، لما عُرِف عن الشخصية العُمانية من أصالة وكرم وتواضع وتمسك بالعادات والتقاليد ومحبة الآخر، وهي من عوامل أساسية لجذب السائحين، وهذا مفصل آخر أساسي من رسالة الجامع الأكبر، وهي وطنية بامتياز، ويترجمها المعرفون بالإسلام في مثالية تطبيقاتها "سلوكًا وعِلمًا".

ولأننا كعُمانيين لدينا القدرة كذلك على اختيار ماهية الأدلة العقلانية النافذة للذهنيات، والجامعة للتعدد والمشترك للوجود الإنساني العالمي والباحث عن الحقيقة الوجودية، وتطرح أمامهم بوسائل عقلانية خالصة بلمسات قلبية صادقة، وكرم عُماني غير مصطنع.. فإنها تصل إحساسهم بها قبل النطق بها، فلا غرابة إذن من مشاهدة سيول الدموع تنهال منهم من شدة تأثر كلياتهم وجزئياتهم بالمرسل اليهم، فكل أدوات استقبالهم للرسالة من المرسلين "المُعرِّفين" مفتوحة دون تحفظ.

آن الأوان لتكريم هؤلاء القادة / المُعرِّفين بالإسلام، بأكبر الأوسمة الوطنية لجهودهم الكبيرة التي تقف وراء كل تلكم الإنجازات المختلفة؛ خاصةً وأنهم أصحاب خبرات وطنية سابقة وطويلة أيضا، تصل لثلاثين عامًا؛ فالتكريم مستحقٌ لهم بامتياز، والتكريم سيحفز بيئة إبداعهم.. وهنا نوجه رسالة تكريمهم الى سعادة رئيس مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم الذي له أدوار تستوجب الشكر أيضًا؛ فمبادرة تكريمهم ينبغي أن تُشكِّل شغلكم الشاغل وسنويًا؛ لأنهم يُعمِلُون الفكر تفكيرًا وتدبيرًا من أجل غاية أسمى قد أصبحت مُتحقَّقة، وتُحسب لبلادنا، وما تكشفه أحداث غزة من نُبل الشعوب الأخرى، والتضحية بحرياتهم وحتى حياتهم لنصرة غزة، يُعزز سمو رسالة الجامع الأكبر وروحه المركز، ويجعله خيارًا مُستدامًا حتى تصل رسالة التعريف بالإسلام لأكبر عددٍ يُمكن الوصول إليه، من أجل الإنسانية في حاضرها ومآلاتها.