"القرن الصيني.. الهيمنة بلا احتلال"

 

حسن صعب **

أراد مؤلف كتاب "القرن الصيني.. الهيمنة بلا احتلال"، أن لا يكون في مجرى مُعطياته تقليديًا في تناول مواطن القوة والضعف، أو بيان الكيفية التي ارتقت فيها التجربة الصينية في البناء والقوة؛ فهذا جزء يسير من الفكرة. إلا أن المحطة الكبرى في الكتاب تتمثل بالسعي الصيني نحو نظام عالمي جديد، وعولمة جديدة يُراد إلباسها لبوسًا صينيًا، مما يفتح النقاش والبحث في مآلات هذه العولمة واتجاهاتها ومضامينها.

والصين هي من أكثر الدول مُراجعة للتاريخ والتوقف عنده باستمرار. لقد سبق لها إبان الحرب الباردة أن اتهمت كلا القطبين (الولايات المتحدة الأميركية) و(الاتحاد السوفيتي)، بأن سياساتهما في العالم تُعبر عن سلوك إمبريالي، وأن الدولتين العظميين هما (إمبرياليتين) بامتياز. فهل ما تُمارسه الصين الآن يُعد (إمبريالية تجارية) في مقابل (إمبريالية مالية) للولايات المتحدة؟

غلاف الكتاب.jpg
 

هنا يرى المؤلف أن بعض التوجهات الصينية ليست بعيدة عن النزعة الإمبريالية، وبخاصةٍ في مجال التجارة الدولية والاستثمار والمساعدات. والمُفارقة أن بعض المسؤولين في الإدارة الأميركية يُحذرون الدول الأفريقية التي تشهد تعاونًا ونفوذًا صينيًا واسعًا وعميقًا فيها، من أن الصين تعتمد أسلوبًا إمبرياليًا في التعامل معها!

ويضيف: الغريب أنه بعد أكثر من أربعة عقود تبشيرية بالعولمة، تأتي الدولة الأولى اقتصاديًا في العالم، والحاضنة الرئيسة للعولمة والليبرالية الاقتصادية الجديدة، لتبدأ سلسلة سياسات اقتصادية (الحمائية التجارية) تتعارض مع أُسُس العولمة، بحجة أن العولمة باتت تُلحِق ضررًا في اقتصادها. وفي الوقت الذي بدا واضحًا تخلي الولايات المتحدة عن العولمة والليبرالية، على الأقل في جوانبها التجارية، نلحظ تمسك الصين بها والحرص على ديمومتها، ورفض أي سياسات مُقيدة لحرية التجارة.

ويستنتج المؤلف أن الظروف التي أهلت الدول الأوروبية والولايات المتحدة لاستعمار ونهب دول العالم، ودول الشرق بخاصة، لم تعُد قائمة، ولن يكون مُمكنًا الاستمرار في نزح الفوائض الاقتصادية نحو الغرب؛ بل حتى الثروة التي انتقلت من الشرق إلى أوروبا، ولاحقًا نحو الولايات المتحدة الأميركية، بدأت ملامح عودتها نحو الشرق. وعندما تكون الثروة في بلدان الشرق، فستصحبُها القوة أيضًا؛ وهذا ما بات يُقلِق الأوروبيين والأميركيين على حدٍ سواء. فالدول التي تتطلع إلى مكانة اقتصادية عالمية هي (الصين- الهند- اليابان- كوريا الجنوبية- إندونيسيا)؛ وهذه جميعًا آسيوية وفي مشرقها.

تحولات عالمية لصالح الصين

يلحظ المؤلف أن مشهد النظام الاقتصادي العالمي في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين يشهد هذا الزخم من التحولات الكبيرة. فالتفرد والقطبية من قِبل دولة واحدة للهيمنة على العالم، والتحكم بمسار نظامه، بات أمرًا غير واقعي نتيجة تزايد عدد الفاعلين الدوليين. وحتى العولمة الاقتصادية التي روجت لها الولايات المتحدة، والتي أرادت من خلالها ضبط التفاعلات الدولية لإبقاء هيمنتها، أخذت بالتنصل عن جوهر هذه العولمة، مُتمثلًا بحرية التجارة وانتقال رؤوس الأموال، وهي الدولة الرأسمالية الكبرى (الولايات المتحدة) ونواة المنظومة (الرأسمالية والليبرالية)، فيما يتبنى النظام الاشتراكي (المركزي) غير الديمقراطي، الدفاع عن جوهر الليبرالية الاقتصادية في حرية انتقال السلع والخدمات والأفراد.

وعلى وقع هذه التحولات في الاتجاهات، والتحضير لانتقال الاقتصاد العالمي من اقتصاد (السلعة) إلى اقتصاد (المعرفة)، تُحاول الصين أن ترصف مُمكنات قوتها الاقتصادية، وتعمل بسعيٍ حثيثٍ لاغتنام الفرصة التي توافرت لها لكي تقود العالم اقتصاديًا، بالتوجهات والأدوات الرأسمالية نفسها.

ووفق ذلك، تُدرك الصين أن حجم التحديات التي تكتنف رغبتها بقيادة العالم مُستقبلًا، تُعد جد كبيرة؛ فما يُراد منها هو الآتي:

الأول: جُملة تدابير (لصد) / أو (لتقليل) منسوب العقوبات والإجراءات الاقتصادية الأميركية والأوروبية ضدها، والتي تستهدف إبطاء مُعدل النمو الاقتصادي فيها، بجانب التفلت من الآثار المالية والنقدية.

الثاني: تقديم أنموذج للعولمة (عولمة صينية)، يقوم على ضمان ربحية كل الشركاء (win-win)؛ أي توافر عدالة اقتصادية للاستفادة من تحرير التجارة والعولمة، بشكلٍ مختلف عما آلت إليه أوضاع البلدان النامية بفعل العولمة الأميركية.

وهذه ستظل برسم التوجهات والآليات الاقتصادية الصينية، لإثبات أن مسارات تقدم البشرية مُتعددة، ويمكن لثقافة الشرق وقِيمه ونماذجه الاقتصادية، أن توفر لكل المُجتمعات فُرص الانتفاع والتعاون المُتبادل فيما بينها، على قاعدة (حق الشعوب) في العيش المُشترك والتمتع بخيرات الأرض بعدالة وإنصاف؛ وهو ما يأذن بقيام نظام اقتصادي جديد (مُنصف) لمُجتمعات الجنوب، ولأول مرة منذ ظهور الرأسمالية.

ويعتقد المؤلف أن اتجاهات الاقتصاد العالمي عام 2020 نحو أزمة اقتصادية، وما عجل بها من انتشار جائحة كورونا، ابتداءً من الصين ونحو العالم كله، ربما وفرت فرصة سانحة للصين لكي تُقدم نفسها كدولة تمتلك مؤهلات القيادة، لا سيما المسؤولية الأخلاقية تجاه البشرية؛ وهو ما يُمثل قُدرتها على تحويل التحدي إلى فرصة، بهدوء وحنكة وتعاون وضبط.

أبعاد مُتعددة للصعود الصيني: الأخلاق أولًا

في الفصول الثلاثة عشر يُعالج المؤلف خلفيات وأُسُس ومسارات هذه الرؤية الصينية الكونية، بأبعادها التاريخية والثقافية والاستراتيجية، والتي نقتبس منها الأفكار الآتية:

-يُجمع أغلب الباحثين على أن الفلسفة الصينية هي إحدى أهم مُرتكزات القوة لعودة الصعود الصيني، وإعادة انبعاث التاريخ البشري من الشرق؛ وهو ما عبر عنه الرئيس الصيني (ماو تسي تونج) مُبكرًا عندما أشار إلى أن (الشمس سوف تُشرق مُجددًا من الشرق، بعدما طال الوضع المقلوب الذي ظلت الشمس فيه تُشرق من الغرب). وقد اهتم فلاسفة الصين بموضوع (فهم الكون وتفسير العالم)، مثل غيرهم من الفلاسفة؛ لكنهم اختلفوا عن كثير من فلاسفة الشعوب الأخرى في أن فهم الوجود والشرح الفلسفي للعالم لم يكن في أولويات اهتماماتهم؛ بل كان الهدف الرئيس للفلسفة الصينية هو (الارتقاء بالإنسان) قبل أي شيء آخر.

وعليه، فالإنسان يُصبح عظيمًا بنظر الفلسفة الصينية حينما يعمل بقناعة تامة من أجل النهوض بالإنسانية، ومن خلال التمسك بمبادئ الأخلاق القويمة من ناحية، والعمل على دعوة الآخرين إليها.

-يرى باحثون أن أثمن ما تملكه الصين من قِيم أخلاقية يعود إلى تُراث فيلسوفها الأول والكبير، أو كما يحلو للصين بتسميته (المُعلم) كونفوشيوس، فيما يُطلِق عليه المُهتمون بتُراث الصين من غير الصينيين (نبي الصين)، لكونه على خلاف الفلاسفة الذين سبقوه، داخل الصين وخارجها؛ وهو قدم الأخلاق نهجًا ببُعد إنساني لحماية المجتمع والحفاظ عليه، إن كان الفرد حاكمًا أو محكومًا.

وجاء تضمين فلسفة كونفوشيوس للتقاليد الصينية، بأبعادها الروحية والاجتماعية والأخلاقية؛ وهذا يتوافق مع المزاج الصيني وخصوصيته، بجانب ما امتلكه كونفوشيوس من صفات شخصية، تمثلت بالصدق والإخلاص أولًا، فضلًا عن الواقعية والاعتدال والعملانية ثانيًا؛ فإنها ظلت مُتجذرة ومتأصلة في الوعي واللاوعي الصيني. فقد كُتِب لها الاستمرار والتحكم في الحياة الصينية لأكثر من واحد وعشرين قرنًا، أي من القرن الأول قبل الميلاد ولحين إعلان الصين الشيوعية على يد ماو تسي تونج عام 1949؛ ثم استعادت جذوتها وتأثيرها بعد وفاته عام 1978، وبدء مسيرة الإصلاح والانفتاح وبناء النهضة الحديثة للصين.

خطط الإصلاح الاقتصادي

-بدأ منذ عام 1979 تطبيق الخطة الاقتصادية المُتضمنة سياسات الإصلاح الاقتصادي، والتي ركزت عل تفكيك الجمعيات الزراعية (الكوميونات)، وإلغاء نظام الحصص والأسعار، والسماح للفلاحين ببيع جزء من إنتاجهم في الأسواق، ومنح الفلاحين حوافز إنتاجية. هذه الإجراءات التي ترافقت مع عودة الإنتاج والحيازة العائلية للأراضي، أثارت حماسة الفلاحين، بحيث لم يستغرق تفكيك النظام الزراعي القديم سوى سنتين إلى ثلاث سنوات، بدأ معها تحقيق نتائج ملموسة ومُشجعة للمضي في الإصلاح؛ وجل ما كان مُستهدفًا من عمليات التحول الواسعة هو مُضاعفة الإنتاج وزيادة الإنتاجية الزراعية، لكي يُمكن تخفيف مظاهر الجوع والفقر، على طريق حل مشكلة الغذاء للشعب الصيني.

وفي المجال الصناعي، كان الإصلاح أكثر صعوبة بسبب الملكية العامة لوسائل الإنتاج في هذا القطاع. لذلك جرى العمل على رفع الكفاءة الاقتصادية للمنشآت الصناعية عامة، وأعيد العمل بنظام الأرباح كمعيار لإدارة الشركات، وإطلاق الحوافز والمكافآت للعاملين، وجرى تخفيف القيود على الإدارات الصناعية في اتخاذ القرارات الإنتاجية والتسويق. وبالمقابل، شهدت الأسواق رفع القيود التجارية والسماح للأسعار بالتحرك.

هذه جميعًا كانت مجسات لبيان ردود الأفعال الاقتصادية، مع بقاء الدولة مُتحفزة لضمان عدم حدوث أزمات. لهذا كانت الفكرة الرئيسة للإصلاح مُحاولة مُضاعفة الإنتاج الصناعي، وتحقيق مُعدل نمو مستقر عند (5٪) سنويًا، بأهداف اشتراكية (تخطيطية)، وبوسائل رأسمالية من خلال (آليات اقتصاد السوق).

-لقد أدرك مُهندس الإصلاح في الصين (دينغ شياو بينغ) عام 1988، أن ما يُكمِل عملية الإصلاح ويُعظم نتائجها، هو إيلاء العلوم والتكنولوجيا الأهمية التي تستحقها، لا سيما وأن رياح العولمة والعوالم الرقمية بدأت تهب على العالم؛ وهذا يرتبط أشد الارتباط بالكيفية التي يتم فيها تحفيز التجارة الخارجية.

لذلك طرح (بينغ) مبدًا جديدًا ومُكملًا (العلوم والتكنولوجيا يمثلان قوة الإنتاج الأولي)، وهي مرحلة لتوسيع سوق التكنولوجيا وتحويل نتائج البحوث العلمية إلى سلعة، في محاولة لمُحاكاة السلع الغربية التي بدأ يرتفع فيها المُكون العلمي والتكنولوجي، والعمل على إعداد (5) ملايين مُتخصص من الدرجة العالية، وهو ضعف العدد الموجود؛ وهو ما دفع إلى زيادة أعداد المُبتعثين والدارسين في أكثر الجامعات رصانة في العالم، في حين جرى تعميم التعليم الإلزامي في عموم الصين للمرحلة التاسعة بشكل تدريجي.

مبادرة الحزام والطريق: التمدد الصيني

أُريد لاستلام (شي جين بينغ) زعامة الصين عام 2013، بأن تبدأ مرحلة جديدة، في ظل تزايد التحديات التي تواجهها، سواء على الصعيد الاستراتيجي أم الاقتصادي، بجانب تحديات أخرى؛ وهي تواجه مرحلة المُنافسة المُحتدمة مع الولايات المتحدة، لكونها المُرشحة بقوة لتولي القيادة الاقتصادية للعالم. وتتبدى الرؤية الصينية في الإبقاء على الصعود بهدوء، من دون الاحتكاك مع الولايات المتحدة، وتعظيم مفاعيل القوة الناعمة، وبناء منظومة علاقات إقليمية ودولية قائمة على الشراكة والاعتماد المتبادل.

وفي الجانب الاقتصادي، فإن بلوغ الاقتصاد الصيني مستوى المنافسة مع القوى الاقتصادية الكبيرة في العالم، واستمرار مُعدلات النمو الاقتصادي بما لا يقل عن (6٪)، بحيث أضحى قاطرة النمو الاقتصادي في العالم، وحل إشكالية التفاوت الاقتصادي والاجتماعي، والعمل على توفير الضمان الاجتماعي للشعب، بُغية خفض الادخار وتحريك الطلب المحلي (الاستهلاك)، والولوج الواسع لميدان التكنولوجيات الفائقة وإنتاج السلع ذات المحتوى التكنولوجي العالي.

أما عن الموقف الأميركي من مبادرة الحزام والطريق، فيُقدر المؤلف أنه ربما كان الباحثون الأميركيون هم أكثر من يشعر بالقلق من أن الصين تستخدم هذه المبادرة لتوسيع نفوذها، مع وصفهم المبادرة بأنها (خطة مارشال الصينية). ويرى هؤلاء أن إعلان الصين عن مبادرتها تلك بمثابة خطة لمواجهة (استراتيجية إعادة التوازن الآسيوي)، التي أعلنت عنها الولايات المتحدة الأميركية منذ عام 2011.

إن مبعث القلق الأميركي المتزايد هو التأييد والدعم الكبير الذي حظِيت به المبادرة الصينية، إذ وقعت الصين (174) وثيقة تعاون حول مبادرة (BRI)، حتى نهاية مارس عام (2019)، مع (126) دولة و(29) منظمة دولية، منها (17) دولة عربية. وهذا ما تراه الولايات المتحدة دخولًا صينيًا إضافيًا على خط التنافس الاقتصادي معها، على الرغم من أن الصين تؤكد باستمرار أن التوسع الاقتصادي والجيو استراتيجي من خلال المبادرة لا يُشكل تحديًا للولايات المتحدة الأميركية؛ إلا أن هذا لا يُطمئن الأميركيين. فأغلب التحليلات والدراسات تخلص إلى أن المبادرة تمثل تهديدًا وتحديًا مُباشرًا لمصالح الولايات المتحدة ومكانتها العالمية مُستقبلًا.

من جهتهم، بات الاستراتيجيون الأميركيون يُعطون اهتمامًا متزايدًا لآسيا وأوراسيا، بِعدها منطقة الخطر الأعظم. لهذا هم يرون أن الكثير من مستقبل أميركا سوف يرتبط بالقوى الراسخة بالفعل في هذه المناطق، وهي (الصين وروسيا)، ويعدون هذه القوى آخذة في الصعود؛ وهي تقتسم معنا الالتزام الواضح بأهمية الحفاظ على استدامة النمو الاقتصادي، مما ينبغي على الولايات المتحدة أن تُعطيها على الأقل اهتمامًا مساويًا للاهتمام بأوروبا.

هذا فيما قطعت دوائر صنع القرار الأميركية ومراكز التفكير الشك باليقين، بأن الصين بدأت عملية الإزاحة المُنتظمة للكثير من القوى الاقتصادية، بما فيها الولايات المتحدة، لتُمسِك بصدارة مُعدلات النمو الاقتصادي وحجم الإنتاج والتصدير وكتلة الاحتياطي النقدي؛ فضلًا عن أنها باتت الشريك التجاري الأول للعديد من حلفاء الولايات المتحدة. وهذه المؤشرات جميعًا، بجانب الإمكانات الهائلة، والقدرات المادية والبشرية التي تمتلكها، وسعيها الذي لا يفتر صوب التقدم، وضعها في موقع (المُنافِس الفعلي) وليس (المُحتمل)، والذي بمقدوره تحدي الولايات المتحدة في القرن الجديد (التحدي الصيني)؛ وبجانبها، تستعيد روسيا شيئًا فشيئًا بريقها كقوة عظمى، وهي وريثة الإمبراطورية الروسية المتوسعة وقطبية الاتحاد السوفيتي العنيدة.

والصين، بحجمها الهائل وديناميتها الاقتصادية وحنكة زعمائها السياسية، تُعد من أكثر البلدان منافسة على القيادة العالمية. فهي تواجه مع الولايات المتحدة من مواقع مختلفة تمامًا. فالولايات المتحدة ترتكز على فكرة (القوة وصناعة العدو)، فيما تستند الصين إلى مركزية فكرتي (التاريخ والمكانة). تهرب الولايات المتحدة دومًا إلى الأمام من تاريخها، بكل ما حمله من إبادة للسكان الأصليين للجغرافية الحالية للولايات المتحدة، وقهرهم واغتصاب أراضيهم. في حين كثيرًا ما تلتفت الصين إلى تاريخ إمبراطوري، بكل ما يحمله من مواريث الفكر والفلسفة، ومن دون إرث استعماري. فالأنموذج الصيني يقف بالضد تمامًا من الأنموذج الأميركي، ومن مواقع عدة هي:

-1أنه أنموذج يتسامى إلى حد القبول الذاتي بالمتضادات، بمقابل أنموذج يقوم على الأنانية المفرطة، التي ظل يتسم بها طوال تاريخه، والقائمة على أعلوية الجنس الأبيض والإنجلوسكسونية، مُقابل دونية الأجناس الأخرى. لهذا شرعت الصين مع القرن الحادي والعشرين بمحاولة إعادة تعريف الذات الصينية، من قوة ثورية إلى (قائد مُفترض) في آسيا، ومُتطلع نحو العالمية بزهو ما حققه من ثمار في الجوانب التجارية والحضور الاقتصادي.

-2يصر الأنموذج الصيني على حق الشعوب والبلدان في اختيار ما يُناسبها من النظم الاقتصادية والسياسية؛ وهذا على العكس تمامًا من الأنموذج الأميركي، الذي يصر على أن تقدم أي مجتمع يظل مرهونًا بقُدرته على نسخ الأنموذج الأميركي..

-3تعتمد الرؤية الصينية القوة الناعمة بشكل مُكثف، وتُعطي لها معنىً أكثر واقعية ومرونة. فالتقدم لا يحدث عن طريق النسخ لأنموذج مُعين في سياق مختلف، ولكن أن تستلهم بعض عناصر هذا الأنموذج وتُكيفه، لكي يتماشى مع الواقع المُختلِف المُراد تطبيقه فيه.

الصين..الهيمنة أم المكانة؟

استراتيجيًا، تُدرك الولايات المتحدة الأميركية جيدًا بأن السعي الصيني المُحفز من روسيا ودول (البريكس)، فضلًا عن تطلع روسيا لاستعادة مكانتها من ناحية أخرى، يهدف إلى تغيير موازين القوى في النظام الدولي، من نظام آحادي القطبية إلى مُتعدد القطبية، ولسوف تحتل الصين فيه القطب الرئيس المُستند إلى القوة الاقتصادية، مما يُوفر لها فرصة قيادة (الاقتصاد والتنمية) العالمية؛ وهو ما يُمكنها من صوغ التوجهات في فضاءات عالمية عدة، وأبرزها على الإطلاق الفضاء(الأورآسيوي)؛ وإن حدث ذلك، فإن الولايات المتحدة ستضطر إلى التخلي عن الهيمنة الليبرالية، وتتبنى النهج الواقعي تخوفًا من أي تهديدات مُحتملة من خصومها..

ولهذا تتمهل الصين قليلًا إزاء الصعود المفاجئ والسريع نحو امتلاك القوة وتوظيفها، لكونه يُمثل خطرًا استراتيجيًا، وبأن الطريق الآمن هو التراكم الجزئي لمُفردات القوة، وصولًا إلى القوة الشاملة، وانطلاقًا من تسلسل استراتيجي يكون مهمازه مُفردة رئيسة تُمثل (بؤرة أو قطب)، للنهوض بباقي المُفردات الاستراتيجية للقوة.

أخيرًا، يخلص المؤلف، وبعد مناقشات مُسهبة للاستراتيجيات الصينية تجاه العالم عمومًا، وتجاه الهيمنة الأميركية خصوصًا، بموازاة تحليله المُعمق لسياسات الصين الداخلية على كل الأصعدة، إلى أن الصين لا تُجاهر بأحقية الهيمنة أو السيطرة في العالم؛ إلا أنها تُلمح بشكلٍ دائمٍ إلى المكانة التي تستحقها. وتبقى المكانة شأنها شأن (الحلم الصيني) أو (السلام الصيني)، ليس لها ضفاف؛ فهي مفتوحة على العالم كله وفقًا لطبوغرافية المصالح، مثلها مثل مُستودع المصالح الأميركية!

***************

المؤلف: أ.د. عبد علي كاظم المعموري.

الناشر: دار روافد للطباعة والنشر والتوزيع.

الطبعة الأولى: 2020.

توزيع: دار المحجة البيضاء.

********************

** باحث لبناني

** ينشر بالتعاون مع مركز الدراسات الآسيوية والصينية في بيروت

تعليق عبر الفيس بوك