د. عبدالله باحجاج
تناولتُ وغيري من الكتاب والصحفيين، نتائج ودروس الحرب الجنونية التي يشُنُّها الصهاينة وحلفاؤهم على غزة منذ أكثر من 5 أشهر، وكلما نُعمِّق التفكير فيها، يظهرُ لنا الكثير؛ منها يُمكن إصدار أحكام فورية بشأنها، ومنها يحتاج الحكم للمُعطى الزمني ونضوجه، والنتيجة الصارخة للوعي، تكمن في الانكشاف المُتصاعِد لنُبل الشعوب الأوروبية والأمريكية ومواقفها المشرفة من جرائم الإبادة الجماعية والتجويع والتهجير واستمرار الحرب.
ما نطرحه في مقال اليوم يخرج من مختبر النضوج الزمني؛ أي بعد مرور هذه الفترة الزمنية الطويلة للحرب على غزة، ولبلادنا تجربة سابقة وفريدة من نوعها في انكشاف هذه الكينونة، تعرّفتُ عليها صدفةً من خلال صديقي الباحث زاهر بن سيف بن سلطان المسكري، عندما تواصلت معه أثناء كتابة هذا المقال، للتعرف على نتائج تجربة "مركز التعريف بالإسلام" التابع لجامع السلطان قابوس الأكبر ببوشر، والغائبة عن الرأي العام العُماني، سيكون لنا معها– أي التجربة– ربما أكثر من مقال، وستتفقون معي في ختام هذا المقال على أن التجربة لم توفّ أدنى حقها من الاهتمام الإعلامي والصحفي، وأن رسالتها تفوق الفهم المتصور عنها، وأنها تستلزم تطويرها ودعم روادها، وأنَّ لها السبق في انكشاف كينونة الشعوب الأخرى النبيلة– كما سيأتي لاحقًا باختصار وبعيد شهر رمضان بإسهاب- أبرَزَتها مسقط من خلال إيمانها بمسؤولية التعريف بالإسلام، واستنطقتها غزة من خلال حجم آلامها البشعة.
ونتيجة انكشافات– غزة ومسقط– تبيّن أنَّ الشعوب التي تختلف معنا– عقلًا ووجدانًا– هي في أمسِّ الحاجة لنا، ونحن مسؤولون عن مفاهيمها الخاطئة، وعن ابتعادها عن الدين؛ لأنها لم تجد الرسالة المُناسبة التي تصل لعقولها ووجدانياتها، وكذلك المُرسِل الواعي والناضج الناقل لها، فتاهت في خطابات الجماعات الآيديولوجية المُسلَّحة والأفكار الإقصائية.. ومن جهتنا، غرقنا في نظرتنا التقليدية لهذه الشعوب بأنها "كافرة وجانحة في غرائزها الحيوانية"، ولم نفصلها عن مواقف سياسييها وأنظمتها، حتى كشفت عن نفسها بنفسها بمواقف تُعبِّر عن نُبلها، وعن استقلاليتها عن حكوماتها، فخرجت للشوارع غاضبةً على الإبادة الجماعية والحرب على غزة، وأصبح الآن من الأهمية تغيير نظرتنا ومفاهيمنا عنها، وتحديدًا وفق الآتي:
- إعادة النظر في كل من يختلف معنا "عقلًا ووجدانًا" على مستوى الشعوب.
- التفرقة بين السياسيين والشعوب.
ذلك أنَّ مفهومنا عن الغربي "الكافر" أصبح مُتغيِّرًا بالعلامة المئوية الكاملة، فلم يعد ذلك الكائن الذي لا يؤمن بالله الخالق والمتحكم فيه الغرائز المادية والأنانية الكاملة، أو المُلحد التائه في مفهومه الخاطئ، أو ذلك الوحش الذي قتلت دولته الملايين من الأبرياء بغير ذنب.. وإنما ذلك الإنسان الذي غابت عنه الرسالة الإسلامية الصحيحة، ومُرسلها المؤهَّل، واعتباره مشروعَ مسلمٍ يتحتِّم أن تصل إليه الرسالة الصحيحة بالمرسل الناضج والمؤهل، وهذا ما يفعله مركز التعريف بالإسلام التابع لجامع السلطان قابوس الأكبر؛ فهو فعلًا- كما يصف- بأنه مركز إشعاع إسلامي يبعثُ من مسقط برسالة الإسلام الى شعوب دول العالم، لكي يقنعهم بأنَّ كل معتقداتهم مصدرها الإسلام، وأن دين كل الشعوب واحد وهو الإسلام، وأن دين الله هو الإسلام؛ لذلك يقوم بأدوار التعريف والتصحيح والتأكيد، تدرون بكم لغة؟ بـ17 لغةً من بينها: الأسبانبة والبرتغالية واليابانية والروسية والهندية بخمس لغاتها، والكورية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية، وكل سائح يأتي للجامع سيجدُ من يتحدث بلغته، وسيجد المؤهل لهذه الرسالة، وأغلبية المُعرِّفِين عُمانيون، والكثير منهم متطوعون، ومن بينهم متقاعدون. أتدرون كم دخل الإسلام عام 2023 من الوفود السياحية التي تأتي لجامع السلطان قابوس الأكبر؟ نحو 545 نطقوا بالشهادة، وما بين 10 إلى 7 آلاف تأثروا. وبعد عودتهم لبلدانهم أعلن الكثير منهم إسلامهم، والناطقون بالشهادة والمتأثرون من جنسيات مختلفة.
هكذا يكشفُ جامع السلطان قابوس الأكبر عبر مركزه الفكري التعريف بالإسلام كينونة الشعوب الأجنبية عامة، ومدى قابليتها لتقبُّل أي نتيجة بعد عملية فكرية وعقلانية، وهذا ما يدعم ما ذهبنا إليه سابقًا من ضرورة تغيير نظرتنا للشعوب التي تختلف معنا "عقلًا ووجدانًا"، وجعلها من ضمن أولويات الاستهداف لاستدراك مسيرها في الحياة في الوقت المناسب. وكما كشف لي زاهر المسكري أن الكثير من السياح ينهارون بالبكاء في ختام الحوارات معهم ومناقشاتهم؛ لأنها تكشف قربهم للإسلام وتزيل الالتباس المصطنع في معتقداتهم. وهنا ندعو الى تكريم المُعرِّفِين بأعلى الأوسمة الوطنية في البلاد لأدوارهم الوطنية والإسلامية، وهذا أقل حقوقهم.. كما ندعو وسائل الاتصال المختلفة إلى إبراز دور الجامع ومركزه في نشر التعريف بالإسلام ونشر الثقافة والأخلاق العُمانية. ومن خلال اطلاعنا على أدواره سالفة الذكر، تظهر لنا الغاية الكبرى التي أرادها السلطان الراحل قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- من إقامة صرح ديني ومعماري في قلب العاصمة مسقط، وتحديًدا في ولاية بوشر؛ لكي يكون مركز إشعاع للشعوب جمعاء، يجد فيه المختلف غايته، والتائه ضالته، ويظهر كينونتهم لتصويب الخطأ في المعتقد أو لدواعي العيش المشترك.
وكل من تابع المُظاهرات والاحتجاجات الشعبية في الكثير من عواصم العالم وبالذات الأوربية والأمريكية، مُطالِبةً بوقف الإبادة الجماعية ووقف الحرب في غزة، ستظهر له صور مختلفة عن الكينونة الإنسانية لشعوب هذه الدول، سيظهر الكائن النبيل المُنحاز للحق الوجودي للإنسان ولحقوقه التاريخية في الأرض والكرامة والعيش الإنساني داخل وطنه. ولنا هنا مثال نقدمه من آخر إحداثيات الأحداث المناصرة لغزة، وهو غضب ولاية تكساس، فقد كان غضبًا راديكاليًا ضد الرئيس جو بايدين الذي سيخوض الشهر المُقبل انتخابات الرئاسة الأمريكية، فقد صرخت في وجهه مطالبة بوقف الإبادة والحرب، فيما امتطى فرسان الولاية الخيول وبالعلم الفلسطيني، وهي امتداد للمظاهرات الحاشدة في المدن الأوروبية مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا. الحشود الأمريكية ضد الحرب تعيد الذاكرة بالتأثير القوي للاحتجاجات المعارضة ضد تدخل الولايات المتحدة الأمريكية في حرب فيتنام 1964، وفقًا لاستطلاع رأي أجرته مؤسسة جالوب، والذي أوضح أن غالبية متزايدة من الأمريكيين ترى أن التدخل الأمريكي في فيتنام كان خطأً. وتقول مصادر إنَّ هذا الخطأ قد أيده بعد ذلك بسنوات المسؤول عن تخطيط هذه الحرب، وهو وزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت ماكنمار.
وسيدفع الرئيس بايدين ثمن انحيازه المُطلق والأعمى لمرتكبي الإبادات الجماعية في انتخابات الرئاسة المقبلة، لكن لا يمكن الرهان عليه ولا على نظيره المقبل، ولا غيرهما، فكل سياسي لن يأتي لهرم السلطة السياسية إلّا برافعة الصهاينة. لكن في المُقابل، نتفق مع اختلاف التأثير في الدول الأوروبية كبريطانيا وفرنسا وألمانيا، ففيها بدأ الرأي العام الغربي يؤثر بقوة في مواقف حكوماته على بعض النتائج، وسنتشهد هنا بفوز جورج جالواي في الانتخابات الفرعية البريطانية، وقد فُسِّرَ فوزه على أنه استفتاء على الحرب في غزة. المثال الآخر تراجع زعيم حزب العمال البريطاني كير ستارمز عن مواقفه التي أيّد فيها قطع الماء والكهرباء عن غزة.
النتيجة العميقة التي نخرج بها من أحداث غزة، أن هناك فجوة عميقة تتسع بين السياسيين والشعوب في أوروبا وأمريكا، ووفق ما ذكره كاتب أمريكي مشهور، فإنَّ 90% من أعضاء مجلس النواب الأمريكي لم يطلبوا وقف الإبادة والحرب، مقابل 70% من الشعب الأمريكي يدعون إلى وقفها عاجلًا، وهي نتيجة تكشف كينونة الشعوب واختلافها عن سياسييها، وأن هذا الاختلاف يتسع ويتعاظم، وتكشف أن هذه الشعوب بحاجة لنا الآن أكثر من أي وقت مضى.. لكن من خلال إعمال الذكاء الفكري.
فهل تغيَّرت نظرتنا للشعوب الأخرى في ضوء أحداث غزة، وفي ضوء تجربة مسقط المؤسسية والاحترافية؟