صورة النَّكبة في الشِّعر الفلسطيني

 

د. سعيد بن سليمان العيسائي **

 

خمسةٌ وسبعون عامًا مرت على النكبة، ولا يزالُ الشعب الفلسطيني يتحرع المرارة والألم والحرمان والتشريد والتهجير القسري والتعذيب إلى يومنا هذا على يد اليهود، في العام 1948 حاقت النكبة بالوطن الفلسطيني، وأدت إلى تهجير الملايين من أبناء هذا الشعب، الذين تحولوا إلى لاجئين، منفيين في الخيام السُّود.

وظهر بسبب هذه المأساة، أو الكارثة ما يُسمى بشعر "المنافي واللجوء والشتات"، وقد برز عددٌ من الشعراء الفلسطنيين الذين واكبوا هذا الحدث الجَلل، وجنَّدوا الكثيرَ من قصائدهم وأشعارهم لتجسيده وتصويره، ونقلوا بذلك مُعاناة المهاجر والمشرد الفلسطيني في بقاع الأرض، وقد تنبأ بعضهم بحدوث هذه النَّكبة قبل وقوعها بسنوات طويلة كما سنشير إلى ذلك.

وقد اخترنا ستةَ شُعراء من كبار الشعراء الفلسطينيين الذين تحدثوا عن النَّكبة، وهم إبراهيم طوقان، وعبد الرحيم محمود، وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، وهارون هاشم رشيد، ويوسف الخطيب، وفدوى طوقان، ويمكن تقسيم هؤلاء الشعراء إلى مجموعتين، وظفت المجموعة الأولى شعرها للتنبؤ بالنكبة، والكفاح المسلح ضد الانتداب البريطاني، الذي كان يُعد ويُمهد لهذه النَّكبة منذ إعلان "وعد بلفور" عام 1917، الذي منحت بموجبه بريطانيا اليهود الحق في تأسيس وطن قومي لهم في فلسطين، ويصادف هذا العام مرور 115 عامًا على هذا الوعد.

ومن هؤلاء الشعراء إبراهيم طوقان، وعبد الرحيم محمود، وإن كان الشاعر عبد الرحيم محمود عاصر النكبة لمدة شهرين فقط قبل وفاته.

أما المجموعة الثانية فأصحابها أربعة من كبار الشعراء الفلسطينيين، وهم عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، وهارون هاشم رشيد، ويوسف الخطيب، وفدوى طوقان، وقد تحدث هؤلاء الشعراء الأربعة عن نكبة 1948، ونكسة 1967، وانعكاس هاتين المأساتين الكبيرتين على الشعب الفلسطيني.

يتربع الشاعر إبراهيم طوقان، المولود سنة 1905 في نابلس، والمتوفى في 2 مايو 1941 عن 36 سنة تقريبًا على رأس المجموعة الأولى، وهذا الشاعر هو الأخ الشقيق للشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان، الملقبة ب"شاعرة فلسطين"، ولُقِبَ هذا الشاعر ب"شاعر الوطن والحب والثورة".

ويُعدُّ الشاعر إبراهيم طوقان من أقدم وأشهر شعراء المقاومة ضد الاحتلال البريطاني، الذي مهد للنكبة من خلال "وعد بلفور"، ومن قصائده المشهورة نشيد "موطني" الذي يقول فيه:

موطني الجَلالُ وَالجَمالُ // السَناءُ وَالبَهاءُ في رُباك

وَالحَياةُ وَالنَجاةُ // وَالهَناءُ وَالرَجاءُ في هَواك

هَل أَراك سالمًا منعّمًا // وَغانِما مُكرّما هَل أَراك

في عُلاك تبلغ السماك

موطِني

مَوطِني الشَباب لَن يَكلَّ // همُّهُ أَن تَستقلَّ أَو يَبيد

نَستَقي مِن الرَدى // وَلَن نَكون لِلعِدى كَالعَبيد

وكان هذا النشيد هو النشيد الوطني الرسمي من عهد الانتداب البريطاني إلى عام 1972، وبعد أن اعترضت إسرائيل على هذا النشيد تمَّ تغييره إلى نشيد "فدائي".

ومن قصائده الأخرى الشهيرة قصيدته التي يقول فيها:

صامتٌ لوْ تكلَّما // لَفَظَ النَّارَ والدِّما

قُلْ لمن عاب صمتَهُ // خُلِقَ الحزمُ أبكما

وأخو الحزم لم تزل // يدُهُ تسْبِقُ الفما

لا تلوموه قد رأى // منْهجَ الحقِّ مُظلما

وبلادًا أحبَّها // ركنُها قد تهدًّما

وخصوما ببغْيِهمْ //ضجَّت الأَرضُ والسما

وثاني أحد أكبر الشعراء الفلسطينيين الذين تنباؤا بالنكبة هو الشاعر عبد الرحيم محمود (1913 – 1948)، وقد كانت قصائده الوطنية على شِفاهِ جميع المواطنين الفلسطينيين، ومِلءِ صُدورهم قبل العام 1948، وهي تعبِّرُ عن وِجدانهم الجمعي في حتمية التنبيه الشديد للخطر الصهيوني الاستعماري، وضرورة مُواجهته ومُقاومته في بواكير تحركه العدواني، حتى لا يتحول إلى أُخطبوط استيطاني ضخم يستولي على كل البلاد.

استقال الشاعر عبد الرحيم محمود من وظيفته كمُعلم في مدرسة النجاح بنابلس لينخرط في صفوف المجاهدين ويُستشهد في معركة "الشجرة" بين طَبريا والناصرة في 13 يوليو 1948 بعد إعلان نُشوء إسرائيل بشهرين فقط، وبعدها كانت قصائده تعم البلاد كلها، ومن أشهر قصائده، قصيدة: "الشهيد" التي يقول فيها:

سَأَحمِلُ روحي عَلى راحَتي // وَأَلقي بِها في مَهاوي الرَّدى

فَإِمّا حَياةٌ تَسُرُّ الصَديقَ // وَإِمّا مَماتٌ يَغيظُ العِدى

وَنَفسُ الشَريفِ لَها غايَتانِ // وُرودُ المَنايا وَنَيلُ المُنى

وَما العَيشُ لا عِشتَ إِن لَم أَكُن // فَخَوفَ الجِنابِ حَرامَ الحِمى

إِذا قُلتُ أَصغى لي العالَمونَ // وَدَوّى مَقالي بَينَ الوَرى

لَعَمرُكَ إِنّي أَرى مَصرَعي // وَلكِن أَغذُّ إِلَيهِ الخُطى

ومن أشهر قصائده كذلك قصيدته المُذهلة التي كان يتنبأ فيها بسقوط المسجد الأقصى في مخالب الاحتلال الإسرائيلي التي يقول في بعض أبياتها:

المَسجِدُ الأَقصى أجئتَ تَزورُهُ // أَم جِئتَ مِن قَبلِ الضَياعِ تُوَدِّعُهْ

حَرمٌ تُباحُ لِكُلِّ أَوكعَ آبِقٍ // وَلِكُلِّ أَفّاقٍ شَريدٍ أربُعُهْ

وَالطاعِنونَ وَبورِكَت جَنباتُهُ // أَبناؤُهُ الظِيَم بِطَعنٍ يوجِعُهْ

وَغَدًا وَما أَدناهُ لا يَبقى سِوى // دَمعٍ لَنا يَهمي وَسِنٌّ نَقرَعُهْ

وهي جزء من قصيدة قالها أثناء زيارة الملك سُعود، وَلِيُ العهد السعودي وقتها إلى فلسطين والقدس عام 1354ه- 1935، زار فيها قرية عنبتا التي تقع قرب طولكرم بلدة الشاعر عبد الرحيم محمود، فألقى هذه القصيدة، والتي حذَّر ونبه فيها لسقوط القدس بأيدي اليهود قبل قيام الكيان الصهيوني بثلاث عشرة سنة، وقبل سقوط القدس بثلاثة عُقود.

ونظم الشاعر المصري علي محمود طه، المولود في المنصورة في 13 أغسطس 1901، وتُوفِي في 17 نوفمير 1949 في القاهرة عن 48 سنة قصيدته الشهيرة "فلسطين"، والتي نظمها بعد النكبة 1948، ويعتقد الكثيرون أنها لشاعر فلسطيني، لأن كلماتها تُعبَّر عن النضال والكفاح ضد المحتل الغاشم، يقول في هذه القصيدة:

أَخِي جَاوَزَ الظَّالِمُونَ المَدَى // فَحَقَّ الجِهَادُ وَحَقَّ الفِدَا

أَنَتْرُكُهُمْ يَغْصِبُونَ العُرُوبَةَ // مَجْدَ الأُبُوَّةِ وَالسُّؤْدَدَا

وَلَيْسُوا بِغَيْرِ صَلِيلِ السُّيُوفِ // يُجِيبُونَ صَوْتًا لَنَا أَوْ صَدَى

فَجَرِّدْ حُسَامَكَ مِنْ غِمْدِهِ // فَلَيْسَ لَهُ بَعْدُ أَنْ يُغْمَدَا

وليس غريبًا أن يتحدث شاعر مصري عن النكبة، لأنَّ الإنجليز الذين أذاقوا الشعب المصري الأمرَّيْن هم أنفسهم الذين مهَّدوا لنكبة الشعب الفلسطيني، وقد أبدع الفنان: محمد عبد الوهاب في أداء هذه القصيدة بطريقة سياعدت الأجيال في حفظها، والتغني بها على مدى عُقودٍ من الزمان.

ومن شعراء المجموعة الثانية الذين عاصروا النكبة وعايشوها الشاعر: عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، ولقبهُ "زيتونة فلسطين". وُلِدَ الشاعر في مدينة طولكرم الفلسطينية عام 1909، وتُوفِي في 11 أكتوبر 1980 عن 71 سنة تقريبًا.

ويُعدُّ الكرمي أحد أبرز الشعراء العرب في العصر الحديث، من قصائده الشهيرة قصيدته التي يحنُّ فيها إلى مرابع الصبا، ويبشر بالعودة الحتمية حيث يقول:

فلسطين الحبيبة كيف أحيا // بعيدًا عن سُهولك والهضاب

تناديني السفوح مُخضبات // وفي الآفاق آثارِ الخِضاب

تناديني الشواطئ باكيات // وفي سمع الزمان صدى انتحاب

تناديني الجداول شاردات // تسير غريبة دون اغتراب

تناديني مدائنك اليتامى // تناديني قُراك مع القباب

ويسألني الرفاق ألا لقاء // وهل من عودة بعد الغياب

أجل سنقبل الترب المندى // وفوق شفاهنا حُمر الرغاب

غدًا سنعود والأجيال تصغي // إلى وقع الخطى عند الإياب

نعود مع العواصف داويات // مع البرق المقدس والشهاب

ومن قصائده الأخرى الشهيرة التي يشير فيها إلى حتمية العودة لا محالة طال الزمان أو قصر، قصيدة: "المُشرَّد"، وهو الذي شُرِّدَ من وطنه وحمل فلسطين في قلبه وروحه، وظلت مفاتيح بيته في حيفا في جيبه، وعاش شريدًا طريدًا، وهو يتساءل:

يا فلسطين وكيف الملتقى // هل أرى بعد النوى أقدس ترب

ويقول في قصيدة أخرى مُذكرًا الأجيال القادمة بالهزيمة المنكرة التي ستحل بالغاصب المحتل، كما حلت بغيره من الغُزاة والطغاة:

قل للذين جنوا على وطني // ما بيننا الأيام والحقب

من قبلكم مرّ الطغاة بنا // هل تعثرت بهم لقد ذهبوا

عصفت بهم نار مقدسة // فإذا بهم لجهنم حطب

ومن شُعراء هذه المجموعة كذلك، الشاعر: هارون هاشم رشيد، المولود في حارة الزيتون بمدينة غزة عام 1927، وهو من شعراء خمسينيات القرن الماضي، ممن أُطلق عليهم شعراء النكبة، أو شعراء العودة، وتُوفِي الشاعر في 27 يوليو 2020 عن 93 عامًا تقريبًا، ومن أشهر قصائده قصيدته الشهيرة التي غنتها الفنانة: فيروز، التي بدأتها بالحديث عن حتمية العودة حين قال:

سَنَرجِعُ يوما إلى حَيِّنا // ونغرَقُ في دافئاتِ المُنى

سنرجِعُ مهما يمرُّ الزمان // وتَنْأى المسافاتُ ما بيننا

فَيَا قلبُ مَهْلًا ولا تَرْتَمِي // على دربِ عَودتنا مُوْهَنَا

يَعزُّ علينا غدًا أن تعودْ // رُفوفُ الطيورِ ونحن هنا

وننتقل الآن للحديث عن الشاعر: يوسف الخطيب، وهو شاعر فلسطيني من شعراء القرن العشرين، وُلِدَ في بلدة دورا قضاء محافظة الخليل عام 1931، ورحل عن عالمنا يوم الخميس 16/16/1011 في دمشق، ومن أشهر قصائده قصيدته التي يقول فيها:

يقولون كان فتى لاجئًا // إلى خيمة في الربى مُشرعة

تطل بعيدا وراء الحدود // على الجنة الخصبة الممرعة

وكانت له ذكريات هناك // مُجنّحة حلوة ممتعة

كتب الشاعر هذه ا لقصيدة بعد نكسة يونيو 1967 التي أدت إلى نزوح الملايين من سُكان المدن الفلسطينية إلى الكثير من بلدان العالم.

وخاتمة المسك في هذه المجموعة هي الشاعرة: فدوى طوقان، التي تُعدُّ من أهم شاعرات فلسطين في القرن العشرين، وُلِدَت هذه الشاعرة في مدينة نابلس في 1 مارس 1917، وتُفيت في 12 ديسمبر عام 2003 عن عثمر يناهز 86 سنة تقريبًا، ومن أشهر قصائدها قصيدتها التي تقول فيها:

وظلّ المشرد عن أرضه // يتمتم: لابد من عودتي

وقد أطرق الرأس في خيمته // وأقفل روحا على ظلمته

وأغلق صدرًا على نقمته

ويتكرر ذكر الخيمة عند فدوى طوقان، وغيرها من شعراء النكبة، وبخاصة الخيمة السوداء كرمز للظلم والظلام والتشريد والتهجير القسري، والبعد عن الوطن الأصلي الحبيب.

وختامًا نقول إنه بذلت جُهود حثيثة، تقودها دول غربية لمسح قصائد النكبة من المناهج الدراسية في بعض الدُّول العربية، وغيرها من القصائد التي تحث على الجهاد والكفاح والنضال، أو حتى تلك التي تتحدث عن فلسطين، وضرورة تحرير الأرض المغتصبة، والحقوق المسلوبة، وذلك بسبب ما يُعرف بالمساعي الرامية، والداعية إلى تكريس الاحتلال، والقبول به أمرًا واقعًا، وبسبب ما نشاهده ونراه من السعي الدؤوب نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني، وجهود ومساعي ما يُعرف بالتصهيُن.

** كاتب وأكاديمي

تعليق عبر الفيس بوك