بدرية خلفان.. الشموخ امرأة

 

د. سعيدة بنت خاطر الفارسية

 

لستُ أدري متى أصبحت بدرية خلفان الصديقة الصدوقة المقربة، لكنني أدري كيف أصبحت كذلك، وقد جمعت بيننا وزارة التربية والتعليم في حقل واحد، وجمعت بيننا صفات عديدة لعل أهمها الجرأة والشجاعة في إبداء الرأي، والذي يراه البعض تهورًا لا يليق بالشخصية السويّة، ولعلها الوطنية المصبوبة صبًا في قلبيْنا، ولعلها حُب القومية العربية التي جُبلنا عليها منذ الصغر، وتناساها غيرنا بمهارة المُنغَمِس في البحث عن مصباح علاء الدين لبناء الذات وأطماعها التي لا تنتهي.

عرفتها شخصية فارهة الاعتداد بالنفس، شامخة الثقة، قوية الشكيمة، صلبة الإرادة، وعندما كان كعبها العالي يرن على أرضية مبنى وزارة التربية والتعليم الجديد آنذاك، كان يقول مالا يقوله لسانها من صلابة وثبات، سألت عنها: من هذه المرأة الأنيقة؟ جاءني صوت يهمس من خلفي إنها بدرية خلفان مديرة الامتحانات، وكانت هذه أول معرفة من جانب واحد بالطبع، سمعت عنها الكثير وأن موظفيها يحسبون لها ألف حساب، ويتقيدون حرفياً بتعليماتها الصارمة، ولأنها تتحرى الدقة في عملها، صارت دائرتها مثالا في الانضباط.

فجوة كبيرة كانت بيننا لا أعرف أسبابها، ربما كان الفارق في السن أحد الأسباب، وربما اختلاف التوجهات الشكلية في الظاهر، فأنا شاعرة مُحبّة للأدب، وهي مُحبّة للسياسة وتتبُّع الأحداث، وإن كنت لا أختلف عنها كثيرًا في حُب السياسة، وتتبُّع الأحداث والربط بينها. ورغم المعرفة التي توثقت بيننا لم أعرف هي مواليد كم ولم أسألها عن ذلك، فقد اعتدت على عدم "الحشرية"، ودس أنفي فيما لا يعنيني، واحترام خصوصية الصديق، وكنتُ أكتفي من الصديقة بما تقوله عن نفسها شاكية أو متسلية بالكلام أحيانًا، لكن حكاياتها التي تتسرب منها كانت تعود بي إلى زمن جميل معظم أبطاله من الثائرين ولم أشارك فيه، فقد كان المدُ الناصري مكتسحًا مُعظم الشعوب العربية آنذاك.

وقتها كانت بدرية خلفان الشابة المُقبلة على الحياة ترفع صورة الرئيس المصري جمال عبد الناصر كثائرة تقود الجماهير وتخطب فيهم بحماس الشباب الواعي في البحرين، وتلاقي القمع من الحكومة البحرينية، وبريطانيا المُتخفِّية في وجودها السرِّي هناك، وفي شمال الخليج العربي حيث الكويت- تحديدًا- الناصرية الهوى والانتماء نجد المساندة التامة من الحكومة للمتظاهرين بمختلف أعمارهم ومراحل دراستهم ولا يستثنون أحدًا، فنخرج خلفهم أطفالًا لا نفقه شيئًا ضمن احتجاج كبير وضجيج صاخب نحو أي جهة يوجهنا مُعلمونا إليها خاصة السفارة الأمريكية التي لا تعرف ماذا تفعل مع الصغار خاصة، وذلك لعدم قدرتها على السيطرة والضبط لعبثية حركاتهم أمام أبوابها الحديدية العملاقة. وفي هذه السن المُبكرة كُنّا نشعر بأننا نُخيف أمريكا ونُخيف العالم بأغانينا الثورية وبأحلامنا الوردية التحررية، وأخيرًا أدركتُ ما هو الرابط بيني وبين بدرية خلفان، لكنها هي تخرج بوعيها في ضرورة التحرُّر، ونخرج نحن برغبة من أخرجنا لنكمل صفوف جماهير الطلاب المُحتجة.

ودارت عجلة الزمن وفق السنن الكونية للحياة، وبدأتُ نشر مقالاتي في الجرائد العُمانية، وكانت أم هيثم قارئة مُدهشة تعترض أحيانًا، تصفق حينًا آخر، وتشجع دائمًا... تعمّقت المعرفة بيننا من خلال كتاباتي، لأعرف أن المرأة تحملني داخلها، فهل أنا العصا التي تتوكأ عليها لتهش بها همومًا لا تستطيع أو لا تُريد أن تُعبِّر عنها؟ ربما! وهل كان منصب الزوج عائقًا للعودة إلى ما كانت عليه قبل استقرارها في عُمان؟ ربما!

لقد كانت مُغتربةً مثلي عن مجتمع يُسرف في تحوُّلاته وتقلّباته، وعندما كنتُ آتيها شاكيةً تقول: "اشكري ربك لقد جئتِ والبلد بها وزارة أسمنتية، والشوارع مُمهّدة، والبلد فيها إذاعة وتلفزيون، وبيتك فيه كهرباء وماء حكومي، والبلد فيها سوبر ماركت"! نعم كان فيها سوبر ماركت واحد، معروف بسوبرماركت صابر.

في جلسة أخرى تروي لي حال عُمان عندما عادت مع زوجها، كانت صدمة جعلتها تتساءل كيف تعيش في هذا المكان؟ هل تنكص وتعود من حيث أتت أم كيف التصرف؟ فقررتْ البقاء مع الزوج الحبيب مُتشجعة بمساندة أهله لها، وقررت مواصلة كفاحها مع تغيير الكفاح الثوري إلى كفاح اجتماعي من أجل التغيير ومساندة المرأة العُمانية في مسيرتها التنموية.

بدرية القادمة من القاهرة الزاهِرة المدهِشة في ستينيات القرن الماضي، والتي تموج بعمالقة الفن والثقافة وبإشعاعات جمال عبد الناصر الثورية، جاءت إلى عُمان التي بالكاد تفتح عينها على حياة تتغير ببطء شديد في بداية السبعينيات من القرن العشرين.

رُزِقَت بابنها الوحيد هيثم الذي كان ولا زال حتى وفاتها سُكّر حياتها، والضوء الذي انبثق داخلها، وسلوتها ضد مرارات الحياة، والذي ظلّ مؤنِسها الوحيد حينما تتعكّر الأيام، وكانت تكرر اسم هيثم في معطم جلساتها تقريبًا، وتسافر روحها معه اذا سافر وتعود إذا عاد، ولا تنفرج أساريرها وتمتلئ بالفرح إلّا إذا تكلمت عن هيثم ولدها، ولم تتحدث كثيرًا في أي موضوع ولا عن منغصات العمل وهمومه، خاصة بعد أن رُقّيتْ- كما قالوا لها- كمستشارة في الوزارة، وتركت الدائرة التي كانت تحمل بصمتها وغرست فيها ثمارها المزهرة، والتي كنَّا نطلق عليها اسم إمبراطورية بدرية خلفان.

كافحت الأستاذة بدرية في عملها التربوي، وكانت تخبرني مُفتخرةً: "يكفيني أن اسمي في كل بيت عُماني؛ حيث وقعت على شهادات الطلبة بصفتي مديرة دائرة الامتحانات".

وعندما ودعتنا قبل أيام في 27 فبراير 2024، ظننتُ أنا وغيري أن وزارة التربية والتعليم ستبعث مندوبًا أو مندوبة عنها تُقدِّم واجب العزاء أو تنشر في الجرائد تعزية تليقُ بما قدمته الراحلة التي كانت من الرعيل الأول، مُتحملةً كغيرها من رائدات النهضة الكثير والكثير مما سهّل لنا فيما بعد السير بيُسرٍ في دروب الحياة ومسالكها، أو في أبسط الأحوال تغريدة من وزيرة التربية تنعي فيها الفقيدة، أو من أي وزير سابق للتربية عاصرها وعرف جهودها، لكن لا حياة لمن تنادي في سيح أجرد لا أخضرار فيه.

جاءت التعازي والمقالات من أخوات راقيات في مملكة البحرين، هناك لم ينسوا- نساءً ورجالًا- دور بدرية الإعلامي والثوري في الخمسينيات، لم ينسوا المناداة بالتحرُّر ومشاركة المرأة البحرينية في العمل وصنوف الحياة العامة، وكتب الدكتور الصحفي المثقف حسن مدن مقاله الجميل الكاشف عن مزيد من العطاءات لبدرية بعنوان "بدرية خلفان سيّدة البدايات"، كتبوا عنها وهي التي لم تعش إلّا بضعة سنوات معدودة من سنوات العمر بينهم في البحرين، وتجاهلناها وهي التي قضت معظم سنوات عمرها في خدمة عُمان، فهل تغيب عنا بدرية خلفان امرأة العطاء المُمتد دون وقفة نبل نتذكر فيها مسيرتها وإخلاصها لهذا الوطن وأهله؟ وهل من بيننا من يتسم بالجحود والنكران إلى هذا الحد؟ وهل نحن نقيم في وطنٍ بلا ذاكرة؟!

أرجو أن لا أكون مُحقّة في تساؤلاتي المريرة!

تعليق عبر الفيس بوك