د. محمد بن عوض المشيخي **
الأفكار الإبداعية التي تحمل في طياتها مشاريع ثقافية وصناعية واقتصادية لنقل عُمان إلى مصاف الدول المتقدمة بما تحمله هذه الكلمة من معنى، هي باختصار عبارة عن مبادرة واعدة استُحدثت هذه السنة من الأمانة العامة لمجلس الوزراء تحت عنوان "صُنَّاع الأفكار"، لتكون ضمن منظومة ملتقى "معًا نتقدَّم" في نسخته الثانية وتحت سقفه الذي يتقدم نحو المجد؛ معتمدًا في ذلك على مشاركة مجتمعية في صناعة قرارات المستقبل التي لم تعد حكرًا على الحكومة والذي تحدثنا عنها في مقالنا الأسبوع الماضي بعنوان "برلمان عُمان المفتوح.. معًا نتقدم".
لقد كانت دعوة صريحة وصادقة لأبناء هذا الوطن للمُشاركة بمساهماتهم لإثراء الساحة الوطنية بالجديد من المبتكرات والأفكار من خارج الصندوق التقليدي، تلك الساحة التي هي بحاجة للجميع لبناء عُمان الغد. ولا شك أنَّ هذا المشروع يحاكي ويلامس قصة نجاح وإبداع أخرى تكتب بأحرف من نور في بلدنا العزيز، ذلك من خلال سوق مفتوحة للأفكار الإبداعية التي تتحول من أفكار عند كتابتها للمرة الأولى على الورق إلى حقيقة على أرض الواقع، من خلال تبني هذه الأفكار الرائدة وتطبيقها في المؤسسات الحكومية والخاصة.
لقد تشرفت أن أكون ضمن كوكبة من الأكاديميين والمُبدعين الذين كلفوا من الأمانة العامة لمجلس الوزراء بتحكيم مسابقة "صناع الأفكار" في نسختها الأولى؛ حيث نظرت اللجنة في 267 فكرة مقسمة على النحو الآتي:
المحور (أدوات التواصل بين الحكومة والمجتمع)، والذي اشتمل على 129 فكرة؛ إذ قامت اللجنة بفرز أولي لأفضل 30 فكرة من بين إجمالي الأفكار، ثم أتى الفرز الأخير للوصول إلى 5 أفكار فقط والتي وصلت إلى اللجنة العليا للمسابقة. كما إن التحكيم في محور (الهوية الوطنية والانتماء) اتّبع نفس المنهجية السابقة؛ إذ تم التعامل مع 138 فكرة أو مشروع في مجال الهوية العُمانية. واجتمع الجميع تحت سقف واحد في مركز عُمان للمؤتمرات قبيل الملتقى (لجنة التحكيم والفرق العشرة الفائزة في المجالين المذكورين سابقًا والمشرفون على المسابقة من الأمانة العامة)، حيث شهد ما يعرف بـ"الهاكاثون" عصفًا ذهنيًا للمشاريع التي وصلت التصفية النهائية؛ إذ حضر أصحاب الأفكار لمناقشة تطوير المشاريع قبل العرض النهائي الذي تحدد يوم 12 فبراير.
وعلى الرغم من عقد "الهاكاثون" يوم إجازة السبت وأمطار المنخفض الجوي، فقد شرف الجميع بحضور معالي الشيخ الفضل الحارثي الأمين العام لمجلس الوزراء، الذي كان مسؤولًا مباشرًا عن هذه التظاهرة الإبداعية الرائعة، إذ كان حريًا بنجاح هذا المشروع الواعد، وتأكيده على حيادية المُحكِّمين، والمحافظة على الملكية الفكرية لأصاحب الأفكار المُقدمة.
وتكمن أهمية هذه المسابقة الإبداعية في الشروط الموضوعة والتي حددت للمتسابقين العديد من المعايير التي تساعد على الفوز والوصول إلى المركز الأول الذي خصص له جائزة تشجيعية بـ5 آلاف ريال عُماني في مجالي المسابقة المتمثل في الهوية الوطنية والانتماء والتواصل بين الحكومة والمجتمع، وذلك في إطار استثمار الأفكار والاستفادة منها في رؤية "عُمان 2040".
ولعل أهم هذه الشروط تتمثل في النقاط الآتية؛ ينطلق نجاح هذه المشاريع من أن تكون الفكرة إبداعية من خلال مضمونها الذي يفترض أن تقدم حلولًا مبتكرة وغير تقليدية بين المشاريع المقدمة، كذلك يجب أن تحقق الفكرة المطروحة تأثيرًا إيجابيًا على المجتمع العُماني، وقبل ذلك كله أن تكون آلية التطبيق سهلة وواضحة وقابلة للتنفيذ من قبل الفئة المستهدفة. والأهم من ذلك هو أن تتمتع تلك الأفكار بالاستدامة والتوسع والقدرة على الاستمرار. كما يُفترض أن يمتلك الفريق المبدع معرفة واسعة بالفكرة التي قدمها يجعل منه صاحب ميزة تنافسية عن المتسابقين الآخرين في المشاريع الفكرية للمسابقة الإبداعية.
هكذا تمحورت معايير هذه المسابقة الإبداعية حول أهداف المسابقة المتمثلة في التصدي ومعالجة الثنائي (أدوات التواصل بين الحكومة والمجتمع والهوية العُمانية).
لا شك أن المجتمع العُماني يزخر بالمواهب الإبداعية التي هي بحاجة ماسّة إلى من يكتشفها أولًا؛ ثم العمل على احتضان المبدعين والأخذ بأيديهم نحو تحويل إبداعاتهم إلى إضافات فكرية واقتصادية لتكون عُمان في مقدمة دول المنطقة في استثمار عقول شبابها في التنمية الوطنية. صحيح ما تزال هناك فجوة بين التنظير والتطبيق، ولعل هذه المبادرة تكون بداية مشوارنا نحو تحقيق طموحات الوطن بعد تهميش الكثير من الأفكار الإبداعية التي يمكن تحويلها إلى مصانع إنتاجية في ما يعرف باقتصاد المعرفة الذي أصبح حديث الساعة في أروقة الحكومات الناجحة في العالم.
وهنا أتذكر عندما كنت عميدًا لشؤون الطلبة عام 2010، حقَّقت جامعة السلطان قابوس المركز الثاني بين 28 جامعة حكومية في الأسبوع العلمي لجامعات دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، والتي كانت تُعقد كل عامين، وكانت المسابقة عبارة عن اختراعات علمية وإبداعات في الفكر والخطابة، وقد انبهر فريق التحكيم الذي تشكل من الجامعات الخليجية الحكومية بقدرات العُمانيين وإمكانياتهم في تلك التظاهرة العلمية التي احتنضنتها جامعة الملك عبدالعزيز في جدة والتي أحرزت المركز الأول.
وفي الختام.. مثلت رعاية صاحب السُّمو السيد ذي يزن بن هيثم آل سعيد، لهذه المبادرة المُباركة، مسكَ الختام ويومًا استثنائيًا بكل المقاييس بالنسبة للجميع، وقد فاز بالمركز الأول فريق "التقدم" عن مشروع "إنشاء دائرة قياس واستطلاع الرأي العام" تتبع وحدة دعم اتخاذ القرار بالأمانة العامة لمجلس الوزراء، وتختص بإجراء مسوحات موسعة للرأي العام بهدف دعم القرار الحكومي، وكذلك تحقيق تطلعات المجتمع في المشاركة في صنع القرار الوطني، من خلال الرجوع للرأي العام العُماني والاستنارة بوجهة نظر الشعب، خاصة استشراف المستقبل والتنبؤ بالأحداث والأزمات المتوقعة. بينما فاز بالمركز الأول في محور تعزيز الهوية الوطنية والانتماء فريق "تراك"، وذلك من خلال فكرة "ابتكار علامة وهوية وطنية وربطها بتسويق المدن"، ويتمثل هذا المشروع في صياغة هوية وطنية تنبثق منها هويات فرعية للمحافظات العُمانية الإحدى عشرة.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري