علم التنبؤ بالمستقبل

 

أ. د. حيدر بن أحمد اللواتي **

 

 

منذ زمن الإغريق كانت الأحداث التي تقع في المستقبل تصنف الى ثلاث أصناف، صنف لابد وأن يقع مثل تتابع الليل والنهار، وصنف احتمال وقوعه مرتفع للغاية كشروق الشمس في أيام الصيف، أما الصنف الثالث فهو الصنف الذي لا يمكننا معرفته، وأغلب الأحداث هي من الصنف الثالث فلا إمكانية لمعرفة المستقبل لهذا الصنف من الأحداث.

لكن الفكرة التي غيرت مسار البشرية برمتها وأوجدت حلا للتنبؤ عن مستقبل الصنف الثالث من الأحداث، طرحت في القرن الخامس عشر، والتي يمكن أن نطرحها على شكل سؤال لتوضيحها، إذا كانت معرفة المستقبل بالنسبة للصنف الثالث من الأحداث متعذرة ولا يمكننا الكشف عنه، فهل من سبيل ووسيلة لقياس احتمالية حدوثه؟!

وقد يتساءل البعض عن سبب تأخرنا في طرح هذا السؤال كل هذه المدة، فالبشر يتخذون قراراتهم بناء على الاحتمالات، فلماذا لم نحاول أن نقيس هذه الاحتمالات بطريقة رياضية؟

قد تكون الإجابة على هذا السؤال غير جازمة، فهناك عدة احتمالات، فقد يكون السبب في تأخرنا، هو الاعتقاد  باستحالة التنبؤ بالمستقبل بصورة علمية اعتمادا على القدرات البشرية، فمثل هذه الاعتقادات تؤثر في سلوك الانسان و تعطل من تفكيره، ولهذا ظلت محاولات التنبؤ عن مستقبل الصنف الثالث من الأحداث بطرق علمية بعيدة عن التفكير البشري لفترة طويلة من الزمن، وقد يرجع السبب الى أن مسألة القياس وإدخال الحساب الكمي في مختلف مناحي الحياة كان محصورا بأمور معينة، فحتى علوم الطبيعة لم يتم ادخال القوانين الرياضية فيها الا في تلك الفترة، أو ربما يرجع السبب في ذلك، أن عددا من الفلاسفة والعلماء كان يرى أن العلم مساوق لليقين، فالعلم يكشف عن الواقع بصورة يقينية لا بصورة محتملة، ومن هنا فقد سعت البشرية الى المعرفة اليقينية، ولم تعر اهتماما كبيرا بالمعرفة المحتملة فهي لا تولد علما بل هي ظنون لا تسمن ولا تغني من جوع كما قد يراها البعض، بينما نجد أن علم الاحتمالات قائم على فكرة مفادها أن العلم القطعي أمر لا يمكن الوصول اليه في التنبؤ عن المستقبل، ولكن ذلك لا يعني أننا نجهل المستقبل تماما، فهناك منطقة وسطى بينهما، وهي المنطقة التي يغطيها علم الاحتمالات.

ربما يكون ما يدعم السبب الأخير المذكور، هو أن علم الاحتمالات لم ينشأ في أحضان الفلاسفة كما هو الحال مع أغلب العلوم، بل نشأ وتولّد عند العوام من الناس والمقامرين بصورة خاصة، فهم كانوا السبب وراء ظهوره، فلقد كان اللعب بحجر النرد ما بين القرن الخامس عشر والسابع عشر هو السبب وراء ظهور هذا العلم، إذ وجه أحد المقامرين سؤالا لجاليليو مفاده لماذا نلاحظ نحن المقامرين بأننا عندما نرمي ثلاثة أحجار نرد معًا، فإن مجموع الأرقام الناتجة مساوياً 10 يظهر أكثر من المجموع 9؟

وكان جواب جاليليو بأن المجموع 10 يمكن أن يكون نتاجا لثلاثة أحجار نرد ترمى معاً أكثر من 9، فعشرة يمكن أن تكون نتيجة (٣،٣،٤)، (٣،٤،٣) و (٤،٣،٣)، بينما 9 لا يمكن أن تكون إلا في حالة واحدة وهي (٣،٣،٣)، ولذا فإن مجموع 10 لثلاث رميات نرد تظهر أكثر من 9.

وبذل الرياضي المشهور باسكال بعد ذلك جهدا كبيرا في هذا العلم الوليد، والسؤال الذي حاول الإجابة عليه يعرف باللعبة غير المنتهية، ولتبسيط المسألة لنفرض أن زيدا وعمرو راهنا بمبلغ 100 ريال عماني لمن يفوز في تنبؤه بخمس رميات لعملة نقدية، فاختار زيد الرسم بينما اختار عمرو الكتابة، وبعد ثلاث رميات، كانت النتيجة فوز زيد برميتين مقابل رمية واحدة لعمرو، ولنفترض أن حدثا معينا حدث أدى إلى توقف اللعبة، فمن يعد الفائز، واللعبة لم تكتمل بعد؟

وسأترك للقارئ العزيز التفكير في كيفية الوصول إلى الحل باستخدام قوانين الاحتمالات.

واستمر هذا العلم الناشئ يشغل ذهن علماء الرياضيات حتى نما ونضج بشكل واسع بما يعرف اليوم بعلم الاحتمالات، الذي غير مجرى حياتنا بحق، فشركات التأمين قائمة على هذا العلم، وأسواق الأسهم والسندات تقوم عليه أيضًا، ومفهوم إدارة المخاطر في مختلف الشركات والمؤسسات قائم على هذا العلم، بل كل محاولة للتنبؤ عن المستقبل قائمة على هذا العلم.

لكن من المهم أن نلاحظ أن هذا العلم يتميز بأن قدرته على التنبؤ لا تتم لكل حدث بشكل منفرد، فهو لا يستطيع أن يتنبأ بمستقبل الحدث المفرد ولكنه يستطيع أن يتنبأ بالحدث إذا تم تكراره بشكل كبير، ويعطيك احتمالات دقيقة للنتائج المتوقعة، ولذا فلا يصح تطبيقه على الحالات المفردة.

كما إن هذا العلم كغيره من العلوم يمكن لكل انسان أن يتعلمه ويبرع فيه، فأنت لا تحتاج الى مهارات خاصة لتتعلمه، فلا حاجة للتواصل مع الجن أو العفاريت أو تعرف كيف تقرأ الفنجان أو النجوم لتتنبأ بما هو قادم.

لقد أوضح لنا علم الاحتمالات أنه لا يمكن لنا نحن البشر أن نتنبأ بالمستقبل بصورة قاطعة ويقينية، ولكن ذلك لا يعني أن نقف مكتوفي الأيدي، فقوانين الاحتمالات تكشف لنا عن احتمالية نتائج الحدث بصورة دقيقة بحيث تولد لنا نوعا من الاطمئنان، وهو السبيل الوحيد الذي يملكه عامة البشر للتنبؤ بالمستقبل.

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس