الظلم الطاغي.. وتنبؤات ابن خلدون

 

 

د. عبدالله باحجاج

عندما يسقط المدافعون عن حقوق الإنسان في انتهاكاتها، وطبيعة الانتهاكات هنا ليست في حق سياسي أو اقتصادي أو ثقافي، وإنما في حق الإنسان في الحياة، عندها يصدق عليهم القول الشهير "حاميها حراميها"، وقد كشفتهم غزة الباسلة بأنهم فعلًا كانوا "حرامية" طوال العقود الماضية؛ إذ تاجروا بحقوق الإنسان لمصالحهم، وباسمها- زاعمين- هددوا أنظمة، ونجحوا في ابتزازها، وباسمها- زاعمين- شنوا الحروب على أنظمة وأطاحوا بها، ونجحوا، وتركوا دولها في فتنة تزهق الأرواح.

ومنذ السابع من أكتوبر 2023، عرّت غزة طبيعتهم الآدمية، وأظهرتهم كيانات بشرية في شكل وحوش بربرية متوحشة، لا يمكن أن تنتمي للإنسانية الطبيعية السوية. والحق في الكرامة، عندها يصدق عليهم القول الشهير "حاميها حراميها" والشعوب لم تنصبهم كمدافعين عنها، وإنما هم من منحوا أنفسهم هذه الصفة، ومارسوها بانتقائية وازدواجية فاضحة. فقد كان الغرب- وعلى رأسهم واشنطن-  قد نجح طوال العقود الماضية في تلبس الأدوار الإنسانية بشعارات حقوق الإنسان والديمقراطية، وقد انطلت على الشعوب والكثير من النخب، واخترقوا المجتمعات ومؤسساتها. ووجدت الأنظمة في المنطقة نفسها تحت ضغوطات قهرية، واستجابت لهم بسهولة، ونجاحهم نرجعه إلى الأسباب التالية: حسن نية الأغلبية، ورغم ذلك فقد تمكنوا من تمرير أنفسهم كمدافعين عن الحقوق في المنطقة لعدة أسباب أبرزها:

- حُسن نية الشعوب "آنذاك".

- عدم لجوء الأنظمة إلى استكمال منظومة الحقوق والحريات طواعية ومن تلقاء نفسها، ودسترتها وإيجاد آليات تنفيذية لضمانتها.

- عدم وجود البدائل الداخلية لاستحقاق الحقوق والحريات الأساسية وضمانتها.

- أطماع النخب في الانتفاع والاستقواء ببرامجهم ومخصصاتهم المالية وامتيازاتهم المعنوية، والاستقواء بهم في مواجهة أنظمتها السياسية.

وكل مظلمة فردية أو فئوية أو جماعية (سياسية، اقتصادية، فكرية) كانت تتجه بوصلتها إما إلى واشنطن لرفعها والانتصار لها، أو لأوروبا للإقامة فيها؛ لأنها أصبحت آمنة أكثر من أوطانهم، وتحولت تقارير هذه الدول السنوية عن حقوق الإنسان في المنطقة إلى سيف مُسلّط على رقاب الأنظمة، وتترقبها بقلق، وتكون غالبًا سببًا في تطوير وتحسين منظومة الحقوق الداخلية فيها (تشريعيًا ومؤسسيًا)، حتى أصبح السلوك السياسي للأنظمة مقومًا بمعايير حقوق الإنسان وحرياته من المنظور الغربي الأمريكي؛ مما تعزز هنا اتجاهات هذه البوصلة رغم علم الشعوب والنخب بازدواجية المعايير الغربية لحقوق الإنسان، وكذلك دافعيته الكامنة وراءها، وقبل طوفان الأقصى كانوا يفرضون أفكارهم الشاذة على المنطقة كالإلحاد والمثلية والنسوية.. لكن بعده، ذابت كما يذوب الرصاص بالنار.

ليس هذا فحسب، وإنما كان سببًا في انكشاف طبيعتهم البربرية المتوحشة، فقد عطلوا القانون الدولي وأوقفوا المعاهدات الدولية والإقليمية، ومنحوا الصهاينة الصلاحية كاملة في تطبيق "قانون الغاب" الأصل فيها الإباحة المفتوحة في فعل كل شيء: إبادات جماعية وتهجير وتجويع، ضد السكان الأصليين، ويقفون معه عسكريًا وماليًا وسياسيًا.. لذلك، لن نُبالغ في نعتهم بالبربرية المتوحشة، فهم يتلذذون بالإبادات الجماعية التي أغلبها من الأطفال والنساء، والتنكيل والتدمير والتجويع دون نوبة ضمير.. وهنا نقول بصوت عالٍ.

لقد انتهت أمريكا كمرجعية لحقوق الإنسان وكمدافعة عنها، فهي الآن مكشوفة لأصغر طفل في المنطقة، وقد أرجعت البشرية إلى تاريخها المظلم حيث كانت المجازر والمذابح البشرية تحصد الملايين.

هذا يعني سقوط النظام العالمي بكل مؤسساته التي تمت إقامتها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية 1945؛ لأنها لم تحل دون عودة المجازر والمذابح والتي بسببها أقيمت للحيلولة دون وقوعها، مما يُحتِّم على البشرية أن تبحث عن نظام جديد أو قوة عادلة لحماية حق الإنسان في الحياة في ظل النزاعات والتوترات، صحيح لا يمكن مقارنة خسائر غزة البشرية والمادية بنظيرتها في الحرب العالمية الثانية، لكن لو تمعنا في الفكر والماهيات سنجد أنها ترتقي إليها من حيث المأساوية والفكر المنتج لها.

إننا نُصِر مع سبق الإصرار والترصد على السقوط التاريخي لواشنطن خاصة والغرب عامة، ولا يمكننا حصره في السقوط الأخلاقي لوحده؛ بل إنه السقوط الشامل الذي تنبأ به ابن خلدون قبل سبعة قرون، وهو صاحب مقولته الخالدة "الظلم مؤذن بخراب العمران"، وقد فسَّر كيف تصل الدول إلى الظلم الطاغي، وآثار هذا الظلم ومآلاته على المجتمع والناس والعمران. وعندما نستدعيها في حالة غزة، ونبحث عن تأصيلاتها الإسلامية، نُجزِم بقرب سقوط دول وأنظمة لأن الظلم الطاغي يحصد أرواح الملايين من البشر ظلمًا وعدوانًا.. إلخ.

وكل من يتابع التقارير السنوية لوزارة الخارجية الأمريكية ويقارنها بالممارسات والمواقف الأمريكية في غزة، سيظهر له التعارض بين القول والفعل من جهة، وسيتأكد له أن إدارة الرئيس جو بايدين تُدخل بلادها في الظلم الطاغي الذي يكون سببًا في زوال الدول والأنظمة. ولنأخذ تقريرًا من تقاريرها الحديثة عن حقوق الإنسان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كنموذج؛ حيث نجد في مقدمته كلمة لوزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن، وننقل منها العبارة التالية: "تتعهد واشنطن بالدفاع عن حقوق الإنسان أينما كان في العالم حتى لو لدى شركاء الولايات المتحدة"، وهنا نتساءل: أين هذا التعهد مما يجري في غزة خصوصًا؟ ويتحقق هنا الظلم الطاغي في كون واشنطن مشاركة بالفعل والقول والمال في الجرائم والإبادات وبصورة مكشوفة.

تنبؤات ابن خلدون تجعلنا نعتبر أمريكا في مفصل تاريخي قابل لكل الاحتمالات السلبية؛ إذ إن أرواح ضحاياها في غزة هم من الأطفال والشباب والنساء، وهي تتساءل عند خالقها بأي ذنبٍ قتلت؟ وأدعية غير الآمنيين في غزة تصعد للسماء مع أدعية ملياري مسلم في العالم على مدار الساعة؛ فيقينًا أننا ننتظر العدالة الإلهية. وقُلنا في مقالنا السابق المعنون "استكبار يُفضي لهلاك الدول والحضارات"، إن صور الهلاك متعددة قمتها، ما يدلل عليه العنوان مباشرة، ومتعددها هلاك سياسي أو اقتصادي، فهل قضية ولاية تِكساس تطبيقًا لنبوءة ابن خلدون؛ حيث إنَّ التطورات فيها تشير الى احتمالية إعلان "جمهورية تكساس الاتحادية" أو الدخول في أتون صراعات داخلية في أمريكا.. والظلم الطاغي في ظرفيته الراهنة لا تستفرد به واشنطن فقط؛ بل الدول الغربية أغلبها، ومن يناصرهم سرًا وعلانية.

لا نتمنى الشر لدولةٍ أو لشعبٍ، وإنما الحديث هنا عن مآلات الظلم الطاغي كتلك الذي يتحدث عنها القرآن الكريم، وتناولناه في مقالنا السابق، خاصة الآن بعد أن أصبح المجتمع الدولي في حالة فراغ "صفرية" للمعيارية الأخلاقية والقيمية و"الصفرية" ذاتها للمدافعين عن حقوق الإنسان دولا أو مؤسسات أو أفرادا، دون جنوب أفريقيا، وهي الاستثناء؛ بل إنها تَظهَر وكأنها جاءت من كوكب آخر. وهنا ننعَى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وكل الاتفاقيات الأخرى، وننعَى كل المنظمات والناشطين الحقوقيين، ففي عهدهم تتجدد المذابح والمآسي، وهنا كذلك ينبغي أن نوجه لواشنطن خاصة والغرب عامة الرسالة التالية: "أنتم الآن أبعد عن الحديث عن حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، لا نقول إن غزة أسقطتكم أخلاقيًا وقيميًا؛ بل أكبر من ذلك، فقد جردتكم من الإنسانية، وكشفت بربريتكم المتوحشة، ولن تجدوا بعد غزة من يستمع إليكم إذا عدتم للحديث عنها.. كنَّا نعلم قبل غزة أنكم لا تنتصرون للحق بصفته الإنسانية المجردة، وإنما لما وراءه من مصالح اقتصادية وجيوسياسية، غير أننا لم ولن نتصور أنكم ستساهمون بصورة سافرة ومفضوحة في الإبادة الجماعية للأطفال والشباب والنساء وكبار السن وكل المدنيين، لا نتصور أن هناك بشرًا تسمح ضمائرهم بما يحدث في غزة حتى الآن.. سترحلون عاجلًا، وستنصِف عدالة السماء الأبرياء.. وإننا منتظرون!