انتصار العاشق الكبير

 

هند الحمدانية

القصيدة واللحن والأغنية لغة عالمية يفهمها جميع الشعوب، ولا تحتاج إلى تُرجمان، لذلك كانت أمسية "أناشيد الحب والانتصار" التي عقدت في مسقط العامرة مُؤخرًا، رسالة وفاء وصمود وتلاحم مع إخواننا المرابطين على أرض فلسطين وغزة الحبيبة، وجسرًا للمشاعر الصادقة للعبور إلى تلك الأرض المُباركة؛ حيث امتزجت قصائد الشاعر سماء عيسى بألحان الدكتور ناصر الطائي، وخلقت مزيجًا فريدًا من الأحاسيس النبيلة، عَبَرت القلوب والأقطار وقرَّبت الثقافات وأرست مفاهيم التضامن مع الحق، وتماهت مع الوعد الإلهي بالانتصار.

سماء عيسى الشاعر العُماني بطَبْعِه الصوفيّ المُميز ارتأى أن يكتب لغزة الحبيبة بمفردات عُمانية أصيلة، هادفًا أن يربط بين سُّمو القضية ومشاعرها الجليلة وبين إحساس العاشق (الشعب العُماني) المُحِب لغزته الشريفة، فيخاطبها بكلماته البسيطة الحنونة الرقيقة، وهنا تمتزج ثقافة العاشق الكبير بعواطف وظروف محبوبته فيصبحان قلبًا واحدًا في بلدين يربطهما الدين والعقيدة والتاريخ والعروبة والعشق؛ ذلك الرابط الإنساني العميق الذي يجمعنا جميعًا.

الإشارة أبلغ من العبارة ودم العاشق يروي الأرض المُباركة، فَيَنزِلُ من معصرات سماء عيسى ماءً ثجاجًا، صب المشاعر صبًا على قلوبنا التي لم ترتوِ بعد من أرضنا المقدسة ومن مسجدنا الأقصى الذي بارك الله حوله، فأمطرت سماء عيسى لحبيبتها غزة شوقًا مرمر العاشق، فتبرأ فيه من حوله وقوته وقوة أهله، يتسامح من الحبيبة ويخلع سرج فرسه، رسالة لها أن سامحيني يا حبيبتي فعلى رغم الشوق للذكريات والحنين لحقول الزيتون والتين ... فيقول في مطلع الأغنية الشجيّة البديعة "غزة حبيبتي":

غزة حبيبتي ضناني الشوق ومرمرني

غزة حبيبتي ما أبرئ عمري وحياني

غزة حبيبتي إلين الموت يقطفني

غزة حبيبتي ضناني الشوق ومرمرني

 

ثم ينتصر لها انتصار العاشق لعشيقته وانتصار المجاهد في معركته، فهو الفائز بالحب في كلتا الحالتين: الحياة أو الموت، فإما أن تكوني لي وأنا حي فأحررك من الموت، وإما أن أكون لك وأنا ميت فتضميني، وتصبحين حبيبتي الأبدية وجنتي الخالدة.

غزة حبيبتي بعد الحب أيجي الموت؟

غزة حبيبتي بعد الموت أيجي الحب؟

غزة حبيبتي ضناني الشوق ومرمرني

غزة حبيبتي ما أبرئ عمري وحياني

غزة أعذريني

أموت قبلك وفدا جرحك الدامي

غزة ادفنيني

أشجار التين والزيتون تظللني

 

ثم تأتي قصيدة "رحال المجدلية" والتي يُذكِّرنا فيها سماء عيسى بالترابط الملحمي الذي لم تتبارك فيه بقعة غير الأرض المقدسة حيث كانت الوطن الأصلي لنشأة الإنسان الأول على مر الحضارات القديمة، وهي أرض الأنبياء ومهد الديانات السماوية كلها: اليهودية والمسيحية ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم ومعراجه إلى السماء، ومع ذلك لم تشهد هذه الأرض المباركة أي نزاعات طائفية ولا شقاقا عقائديا؛ بل تناغمت القلوب كحمامة سلام ضمت تحت جناحيها البدو والحضر، المسلمين والمسيحيين والسامريين وجميع الأطياف على أرض فلسطين المُقدّسة.

تكتسي سماء شاعرنا بالسحب وتضرب "الكوس" سواحل البلاد، مُقتفيةً أثر رحال المجدلية في قصيدة فاض فيها الحنين واللهفة للمجدلية التي مثلت رمزًا عظيمًا وشخصية مسيحية ملهمة، استعان بها سماء عيسى ليذكرنا من جديد كيف تنصهر كل الأطياف لتشكل صبابة ووجدًا لا يعترف إلّا بالالتحام المُطلق، المُتمثل في العشق الفاتح لمغاليق الأسباب، وقد أدّت فرقة الزاوية للسماع العرفاني أغنية "هبت الكوس"، والتي تقول:

هبت الكوس يا كوس خبريني

هين حطت رحال المجدلية

رديت أبكي ليالي القمرية

ودموع سود مالها ندية

قلت يا سيح وراك ألف سيح

حتى توصل خيام المجدلية

قلت يا ريح خلف الجبال رُمسي

تفنن سماء عيسى في التغزُّل بالحبيبة غزّة، ساكبًا مشاعره الجيّاشة النقيّة في قصيدة "غزّة يا بنت عمي"، عاكفًا على العهد الذي قطعه لها مُحبًا مُخلصًا سندًا يُناضل من أجلها، وسعادته لا تتحقق إلّا بوصلها. وفي هذه الأغنية، نستمع إلى إبداع وتمازج موسيقي بين ألحان الرّبوبة الظفارية والدبكة الفلسطينية، في إبداع موسيقي فريد للمُلحِّن الدكتور ناصر الطائي.

غزّة يا بنت عمي

خضراء وطويلة

ساكنة الجبل

يا ريح دليني

حياني هين الطريق

قبل الجفاء ما يطول

دلتني بوش البدو

وقطفت ياسمينة

غزّة بنت العم الحبيبة، لا تُشبه الأخريات في قصائد سماء عيسى، جاءت مُنزّهة وثمينة، تبحث عنها النجوم وتسأل عنها ريح الكوس، تارة تسكن الجبل البعيد، وتارة ترتقي نجمة في سماء عيسى، لكن الأمر الأكيد أنها جوهرة نفيسة، وعلى من أراد الفوز بقربها تسليم مهرها المبارك وهو: النصر أم الشهادة وفي كلتا الحالتين يظفر العاشق الكبير بحبيبته غزّة، فبعد الحب يأتي الموت، وبعد الموت يأتي الحب.

كم كانت تلك الأمسية البديعة مفعمة بالمشاعر الجياشة تجاه غزة الصمود والإباء، تحُفُّها صيحات النصر القادم من بعيد، على نغمات القصائد والألحان الأصيلة، وفاءً وإجلالًا لكل التضحيات التي نراها كل لحظة، فداءً لفلسطين، وطن الزعتر والزيتون، والأرض التي بورك حولها، وستظل مُباركة إلى يوم الدين.

الأكثر قراءة