مرتضى بن حسن بن علي
"صهيون" اسم مذكور في أحد الأسفار اليهودية من التوراة وهو اسم جبل في مدينة القدس وهو مكان دفن الملك داود، ومصطلح "الصهيونية" مشتق من كلمة "صهيون"، و"الصهيونية" ارتبطت بالكاتب والصحفي السويسري تيودور هرتزل، الملقب بـ"أبي الحركة الصهيونية"، الذي أصدر كتابًا في عام 1896؛ أي بعد 30 سنة من افتتاح قناة السويس، بعنوان "الدولة اليهودية" شرح فيه بإسهاب مشروع الدولة اليهودية وتهجير اليهود إلى فلسطين، والتعبئة من أجل القضية اليهودية عبر العالم، وتجنيد اليهود خلف فكرة الدولة التي لم تكن ذات أهمية لدى فئات واسعة من اليهود، وأفكاره ساهمت في إعطاء بعد سياسي وقومي لليهودية يتمثل في هجرة اليهود إلى فلسطين، وإنجاح مشروع قيام إسرائيل لاحقًا.
ومنذ ظهور المشروع الصهيوني في أواخر القرن التاسع عشر، بدأت المنظمات اليهودية في السيطرة على معظم وسائل الإعلام تدريجيًا. أهمية الإعلام بالنسبة لها كانت تعادل أهمية الأسلحة الفتّاكة. ولعب المال اليهودي دورًا كبيرًا في السيطرة عليها تدريجيًا لدرجة أنه تمكّن من منع نشر أية معلومات عن معاناة الشعب الفلسطيني والجرائم المرتكبة بحقه، كما منع نشر الدراسات المُهمة والمُعدّة من كبار المفكرين والفلاسفة الغربيين حول إسرائيل واليهود. وعلى سبيل المثال، لم يُسمح للمفكر الفرنسي روجيه غارودي أن ينشر مقالًا في صحيفة "لوموند" الفرنسية يُشكك في حدوث المحرقة اليهودية، كما لم تجرؤ أي صحيفة فرنسية على نشر المقال، فاضطر أن ينشرها في باب الإعلانات بتكلفة 70 ألف فرنك فرنسي!! وقامت قيامة اللوبي اليهودي في فرنسا وشن حملة عالمية ضده. وقام اليهود لاحقًا بامتلاك أقوى المحطات الفضائية والأرضية والمحلية وتوجيها لخدمة الصهيونية، كما تمت السيطرة على شبكات الإنترنت وشركات التواصل الاجتماعي عند ظهورها.
كان الإعلام عموديًا، ثم بدأ بالتحول تدريجيًا إلى نظام أفقي. في النظام العمودي كانت هناك جهة رقابية في القمّة تراقب وتتدخل في كل شيء، وكُنا نشاهد جهاز التلفزيون أو نقرأ الصحيفة مثلا بشكل سلبي ونتلقى أي معلومات يريد أي نظام أن يقدمها لنا، ولم نتمكن من المساهمة في المناقشة. السيطرة على المعلومات كانت تتم من خلال تقييد القمة للإعلاميين. وإذا تجرأ أي إعلامي من نشر شيء مختلف خارج الصندوق، يتم فصله بسهولة ويصبح عاطلًا عن العمل لصعوبة إيجاد أية وظيفة.
وبفضل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، تحوَّل الإعلام من نظام عمودي إلى نظام أفقي، وأصبحت العلاقة الآن أكثر تناسقًا، كل واحد مِنا يُعطِي ويستقبل. وظهرت "صحافة المواطن". هناك الآن "ملايين من الصحفيين"، وأصبح التحكم في المعلومات صعبًا. وهذا غيَّر ميزان القوى بشكل جذري في وسائل الإعلام، وأصبحت الرواية التي رعاها الإسرائيليون لمدة طويلة في منافسة مع روايات أخرى، وهذه إحدى معضلات إسرائيل الآن.
المؤرخ البريطاني المشهور والمناهض للصهيونية طوني جودت والمتخصص في نقد التاريخ الأوروبي (توفي عام 2010) صرح بأن "إسرائيل أصبحت مفارقة تاريخية وهيكلًا عفا عليه الزمن"، مشيرا إلى أن الفكرة الصهيونية عندما ظهرت في عام 1897، كان الاستعمار هو السائد، ولكن عندما نشأت إسرائيل في عام 1948، كان الاستعمار في مراحله النهائية. المقال أثار جدلًا كبيرًا بين اليهود والمؤيدين لإسرائيل، وقال مؤرخ يهودي آخر إن إسرائيل بدأت كوكالة هجرة، لكنها فشلت فيما بعد في أن تصبح دولة حقيقية.
وذكر الحاخام الأرثوذكسي المناهض للصهيونية "الحنان بيك" لوكالة الأناضول الإخبارية التركية: "إسرائيل فشلت في توفير الأمن لليهود؛ لدرجة أنها أصبحت المكان الأخطر عليهم، مشيرًا إلى أن المسلمين أنقذوا اليهود من الاضطهاد عبر التاريخ، وتحرير فلسطين لابُد أن يكون من البحر إلى النهر، واليهود يعيشون بسلام وأمان في كافة أنحاء العالم، حتى في البلدان المسلمة".
يعتقد الكثير من المحللين أن الحرب الحالية قد تنتهي بنتيجة سيئة لإسرائيل؛ لأن الظروف الحالية تختلف جذريًا عمّا كانت عليه خلال الحروب السابقة؛ إذ إن تحوُّل الإعلام من شكله العمودي إلى شكله الأفقي أدى إلى ظهور "إعلام المواطن"، وبدأ الرأي العام الدولي يتغير، وقد تغيَّر بسرعة بعد "7 أكتوبر" بسبب وجود ملايين الأشخاص على شبكات التواصل الاجتماعي يقدمون الصورة الحقيقية للحرب.
أخذ عدد متزايد من الناس في العالم، ينظر إلى الحرب كمذابح مُمنهَجة ضد المدنيين، وتطهير عرقي يرافقها منع الطعام والماء والدواء، وتدمير الكليات والمستشفيات والبنية التحتية والمناطق المكتظة بالسكان لجعلها غير صالحة للسكن، على أيدي جنرالات يتسترون خلف التكنولوجيا.
اعتمدت إسرائيل كثيرًا على الدعاية، وصوَّرت نفسها كضحية وبحاجة إلى الحماية، كما اعتمدت على الولايات المتحدة لحمايتها وتغطيتها في الأمم المتحدة. أما اللوبي اليهودي القوي المؤيد لإسرائيل "منظمة آيباك AIPAC" في الولايات المتحدة، فيصرف مبالغ ضخمة لحمايتها وهزيمة خصومها. وقوف الولايات المتحدة خلف إسرائيل ودعمها غير المشروط يساعد إسرائيل على عدم تنفيذ قرارات مجلس الأمن. وفي عهد نتنياهو، أصبحت إسرائيل أكثر تطرفًا وعدوانية، مما كانت عليه من قبل، والقانون الذي صدر في عام 2018 عَرَّف إسرائيل بأنها «الدولة القومية للشعب اليهودي».
تجربتا جنوب أفريقيا وزيمبابوي أظهرتا عدم قدرة المستوطنين المهاجرين من بلدان أخرى على النجاح إلّا مع الفصل العنصري والتطهير العرقي، وهذه السياسة لم تعد مقبولة في العالم ومن ضمن ذلك الغرب.
بدأ الدعم العالمي الذي حظيت به إسرائيل في التراجع، ودول عديدة عبر العالم تعلن عن «قلق متزايد واستنكار» إزاء العدد الهائل من القتلى، لا سيما بين الأطفال والنساء في غزة، في ظل العدوان المستمر منذ شهور، وحرمان الفلسطينيين من الطعام والماء والأدوية والتدمير المنهجي للمنازل والمستشفيات والماشية ومصادر المياه حتى لا تكون غزة صالحة للعيش. كما قطعت بعض الدول علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، إضافة إلى قيام جنوب أفريقيا بتوجيه تهمة الإبادة الجماعية لإسرائيل في محكمة العدل الدولية.
وطبقاً لاستطلاع رأي نشرته مجلة "تايم" الأمريكية، فإنَّ إسرائيل فقدت الكثير من الدعم الشعبي في العالم. وأوضح الاستطلاع أن الانخفاض في التأييد شمل 42 دولة من أصل 43 دولة؛ فالنظرة الإيجابية من دول عديدة في أفريقيا وآسيا وبعض دول أمريكا اللاتينية تجاه إسرائيل تحولت إلى سلبية، إضافة إلى انخفاض نسبة التأييد في دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية والمملكة المتحدة بشكل كبير وملحوظ. الولايات المتحدة ربما هي الدولة الوحيدة التي انخفض التأييد بنسب قليلة. لكن الدعم الأمريكي لإسرائيل أثّر على سمعة الولايات المتحدة الأمريكية ليس فقط في البلدان العربية فحسب، لكن أيضًا في أماكن كثيرة في العالم.
في نهاية المطاف.. يُظهِر تقلُّص الدعم لإسرائيل، كيفية التأثير المستمر للأحداث والظروف على الرأى العام، من خلال التغطية الإعلامية للصور والمناظر المروعة، وتغيُّر رأي عديد من المجتمعات بشكل كبير بشأن هذه الحرب، كما أظهرت قدرة "صحافة المواطن"على لعب دور مُهم؛ فالتجارب أثبتت أن الدول الاستيطانية لا يمكن لها- بأي حال من الأحوال- أن تبقى لفترة طويلة.