حاتم الطائي
◄ مواقف مُشرِّفة للدبلوماسية العُمانية تعكس الالتزام الراسخ بالعدالة الدولية
◄ الاحتلال الإسرائيلي بات مُدانًا أمام العالم بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية
◄ إسرائيل فقدت الحصانة القضائية التي كانت تتمتع بها بدعم أمريكي وغربي
على الرغم من أنَّ القرار التاريخي لمحكمة العدل الدولية لم يتضمن أي قرار يتعلق بالوقف الفوري للعدوان الصهيوني على قطاع غزة، ولم يأمر دولة الاحتلال الإسرائيلي بالانسحاب من القطاع، إلّا أنَّه مثّل صفعة قوية على وجه قوى الشر والقتل والتدمير، الساعين لإبادة الشعب الفلسطيني عن بكرة أبيه، والعاقدين العزم على تحويل غزة إلى مكان لا يصلح للعيش، كي يتحقق مشروعهم الاستعماري العنصري على جثث الفلسطينيين.
الصفعة القوية من محكمة العدل الدولية أصابت الاحتلال الإسرائيلي بحالة من الجنون والارتباك الشديد، كما ألحقت هزيمة دبلوماسية نكراء بالولايات المتحدة وكل الدول التي أجرمت في حق الشعب الفلسطيني، وسعت بكل قوتها لإثناء أي دولة عن تأييد المُحاكمة؛ إذ قررت المحكمة أولًا رفض طلب إسرائيل برد الدعوى التي أقامتها جنوب أفريقيا ضدها بتهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. كما أمرت المحكمة الكيان الإسرائيلي "باتخاذ إجراءات لمنع ومعاقبة التحريض المباشر على الإبادة الجماعية في حربها في قطاع غزة". وشملت قرارات المحكمة أيضًا توجيه أوامر لإسرائيل "بالامتناع عن أي أعمال قد تندرج ضمن اتفاقية الإبادة الجماعية، وكذلك ضمان عدم ارتكاب قواتها أي أعمال إبادة جماعية في غزة". وأمرت المحكمة دولة الاحتلال الإسرائيلي "باتخاذ كل التدابير التي في وسعها لمنع أعمال الإبادة الجماعية في غزة"، وكذلك "اتخاذ إجراءات لتحسين الوضع الإنساني".
لكن القرار الأهم تمثل في إلزام دولة الاحتلال بتقديم تقرير إلى المحكمة في غضون شهر واحد، حول ما تفعله لتنفيذ ما صدر عن المحكمة من قرارات، خاصة القرار المتعلق باتخاذ تدابير منع أعمال الإبادة الجماعية، وهذا يفرض ضغطًا على جيش الاحتلال نأمل أن يدفعه لوقف الحرب.
هذه القرارات وإن كانت- كما ذكرنا- لا تُلبي الطموحات الإنسانية في ضرورة صدور أمر مباشر لوقف إطلاق النار في غزة، إلّا أنها تنطوي على أهمية قانونية ودبلوماسية غير مسبوقة، نوضحها كما يلي:
أولًا: لأول مرة باتت إسرائيل مُدانة قانونًا بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، حتى ولو لم يصدر- حتى الآن- أي حكم باتٌ وواضحٌ في هذا الخصوص؛ حيث إن قرارات محكمة العدل الدولية الصادرة ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي أكدت قناعة المحكمة بأنَّ إسرائيل ترتكب أعمالًا مُخالِفة لقواعد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، وعليه لا يحق لإسرائيل أن تعترض على مداولة القضية في أعلى محكمة تابعة للأمم المتحدة، وأن المحكمة لن ترفض قضية الإبادة الجماعية ضد إسرائيل.
ثانيًا: لم تعد إسرائيل تتمتع بأي حصانة قضائية دولية، كما كان قبل صدور هذا القرار التاريخي، فقد كسرت جنوب إفريقيا الحواجز التي كانت تحول دون جرِّ إسرائيل إلى ساحات التقاضي الدولية، وجميعنا يتذكر كيف أنَّ الولايات المتحدة والغرب كانوا يمارسون ضغوطًا هائلة وتهديدات بـ"تجويع الشعب الفلسطيني" إذا ما قررت فلسطين اللجوء إلى المحاكم الدولية لمقاضاة إسرائيل.
ثالثًا: ممارسات الاحتلال الإسرائيلي باتت تحت مجهر العدالة الدولية، وأي ممارسات تتنافى مع القانون الدولي ستكون محل عقاب؛ بل إن إسرائيل باتت مُلزمة وفق القانون الدولي بأن تمنع جريمة الإبادة الجماعية أو التحريض عليها، واتخاذ أي تدابير لضمان ذلك، وهذا يعني ضمنًا وقف الحرب، لأنَّ كل تصرفات جيش الاحتلال هي جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية.
رابعًا: نص الإدانة في حيثيات قرار محكمة العدل الدولية؛ حيث برهنت هذه الحيثيات بما لا يدع مجالًا للشك على أن إسرائيل وقادتها المتطرفين أطلقوا تصريحات وتهديدات مثّلت تحريضًا على ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية؛ سواءً فيما يتعلق بقطع المياه أو الاتصالات أو الكهرباء، وكذلك منع وعرقلة دخول المساعدات الإنسانية والإغاثية من المعابر البرية أو حتى من البحر، وكذلك قصف المستشفيات وحصارها وهدم المنازل فوق رؤوس سكانيها من المدنيين، وقصف المدارس ومؤسسات التعليم والجامعات ودور العبادة، فضلًا عن خطاب الكراهية الذي يُدلي به المسؤولون في إسرائيل أو في وسائل الإعلام العبرية.
خامسًا: قرار المحكمة أيّد حق الشعب الفلسطيني في تلقي الحماية الدولية من أية أعمال تمثل أو تُحرِّض على الإبادة الجماعية، وهذه الحماية تأتي بموجب القانون الدولي واتفاقية منع ومُعاقبة جريمة الإبادة الجماعية.
سادسًا: أن قرارات محكمة العدل الدولية انتصارٌ دبلوماسيٌ غير مسبوق لدولة جنوب إفريقيا، التي خاضت المعركة منفردةً بكل قوة وشجاعة، دون أن تخشى ردة الفعل الصهيونية والغربية ضدها، وهي لا شك قد تكون عنيفة، إلّا أنَّ القيم الإنسانية والأخلاقية لدى رئيس وحكومة وشعب جنوب إفريقيا علت فوق أي اعتبار، ولم تخش في الحق لومة لائم. بينما في المُقابل لم تتحرك أي دولة عربية للمُشاركة في هذه القضية، ولم تبذل جامعة الدول العربية ولا أي منظمة إقليمية أخرى، أي جهد من أجل محاكمة إسرائيل أمام العدالة الدولية، مما يضع العديد من علامات الاستفهام والاستنكار في الوقت نفسه، أمام هذه المنظمات الإقليمية، التي يبدو أنها ليست سوى كيانات صورية لإصدار بيانات الشجب والإدانة وحسب!
غير أننا الآن يُمكننا القول إنَّ إسرائيل خسرت المعركة القضائية؛ بل وأودِعت قفص الاتهام حرفيًا، وهذا يجب أن يمثل مُنطلقًا قانونيًا لمحاكمة إسرائيل وقادتها على كل الجرائم التي ارتكبوها منذ نكبة 1948 وحتى اليوم، سواء في فلسطين المُحتلة أو في أي دولة دنستها القدم الصهيونية، وهنا ندعو بأعلى صوت لتشكيل تحالف قانوني عالمي يضم نخبة من المحامين والحقوقيين ونشطاء المجتمع المدني في أنحاء العالم، من أجل الحشد ضد دولة الاحتلال وقادتها وملاحقتهم في كل محاكم العالم، وليس فقط محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية؛ بل أيضًا المحاكم المحلية في كل الدول، على أن يسعى هذا الفريق لاستصدار مذكرات حمراء من الإنتربول، لتوقيف كل المسؤولين عن المذابح الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني وعلى رأسهم رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزراؤه في مجلس الحرب الإجرامي.
وبالتوازي مع هذا الفريق القانوني الدولي، نطالب كذلك بتشكيل جبهة إعلامية دولية، تتولى مهمة توثيق جرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية من خلال جمع الشهادات والأدلة على قيام قادة ومسؤولي كيان الاحتلال بالتحريض على ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وجرائم إبادة جماعية، مع رصد حسابات وسائل التواصل الاجتماعي ومقاطع الفيديو التي تُظهر إسرائيليين يحرضون على ذبح الشعب الفلسطيني وقصفه حتى بالقنبلة النووية.
لقد كشف العدوان الصهيوني على قطاع غزة والجرائم المتواصلة لإبادة الشعب الفلسطيني وتحويل القطاع إلى مكان غير صالح للعيش، عن المواقف الحقيقية للدول، ومدى وقوفها بجانب الحق الإنساني، وهُنا ينبغي علينا وعلى كل شريف أن يفتخر بمواقف سلطنة عُمان التي عبّرت عنها في مختلف المواقف، والتي رفضت بشكل قاطع كل الجرائم الصهيونية ودعت- وما زالت تدعو- لوقف الحرب فورًا، وكان معالي السيد بدر بن حمد البوسعيدي وزير الخارجية أول من دعا إلى محاكمة إسرائيل دوليًا، ومُحاسبتها على جرائمها بحق الشعب الفلسطيني. هكذا هي مواقف الشرفاء أصحاب الرسالة في هذه الحياة؛ فالدبلوماسية العُمانية تنتهج مسارًا واضحًا لا يقبل التأويل... مسارٌ يعكس إيمانها العميق بالثوابت والمُرتكزات التي تنطلق من خلالها لتحقيق العدالة والسلام والاستقرار في أنحاء العالم؛ وذلك اتساقًا مع مبادئها الرصينة وقيمها الأصيلة التي تعكس الهوية العُمانية المُتحضِّرة والضاربة بجذورها في أعماق التاريخ.
ويبقى القول.. إنَّ الحق الفلسطيني ساطع كضوء الشمس، وليس في حاجة إلى أي دليلٍ لتأكيد مدى بشاعة وجُرم الاحتلال الصهيوني، ونزعته الفاشية لإبادة الشعب الفلسطيني واغتصاب أرضه وسرقة خيراته، وما قرارات محكمة العدل الدولية إلّا غيض من فيضِ ما نأمله ونرجوه من هذه المحكمة وصولًا إلى إصدار حكمها النهائي، وأيًا ما كان الحكم فلقد شعر الشعب الفلسطيني وكل إنسان حر وشريف في هذا العالم، أنَّه لأوَّل مرة يتحقق جزء- ولو يسيرًا- من العدالة لأكثر الشعوب مُعاناة من أسوأ احتلال استعماري في التاريخ.