د. عبدالله باحجاج
ليس هناك دولة إقليمية لديها رؤية ثاقبة وخبرات تراكمية عن المنطقة مثل سلطنة عُمان، وليس هناك دولة غيرها تتمتع بعلاقات "صفرية" من المشاكل والخلافات المزعزعة للاستقرار الإقليمي، وليس هناك دولة تتمتع بثقة ومصداقية إقليمية غيرها، وليس هناك دولة تؤمن بالحل السياسي والدبلوماسي للخلافات والمشاكل بين الدول والجماعات مثلها.
لذلك تحظى سلطنة عُمان بالاحترام والتقدير والقبول من كل الفاعلين الإقليميين والدوليين، وهي ذات ثقة مستدامة اكتسبتها من خلال تراكم تطبيقات مبادئها السلمية ورهاناتها على الحلول السياسية، واحترام خيار الشعوب والدول الأخرى، وتطابق أقوالها مع أفعالها، وبُعيد وبعد كل تهور في استخدام القوة من قبل الآخرين، يلجأ إليها لمعالجة تداعياتها- أي القوة- حفاظًا على السلم والاستقرار الإقليمي والعالمي.
وعندما تخرج عُمان بعد الهجمات الأمريكية والبريطانية على عدة محافظات في اليمن ببيان عبر وزارة خارجيتها شديد اللهجة تلوح فيه بأنها حذرت "مرارًا" من توسيع دائرة الصراع والمُواجهة في المنطقة، في ظل استمرار العدوان الصهيوني على الأراضي الفلسطينية، وتداعياته من إبادات جماعية وتدمير وتجويع بحق المدنيين والسكان في غزة، فإنَّ هذا له الكثير من الرسائل نوجزها في النقاط التالية:
- أن هناك استياءً عُمانيًا من عدم الاستماع لتحذيراتها ونصائحها، وهي الأعلم بالمنطقة وخلفياتها وخفاياها وأسرارها.
- التخوف العُماني الصريح من توسيع دائرة الصراع إقليميًا بعد القصف الأمريكي البريطاني على اليمن، وكلنا نعلم الاختلالات الكبرى في مفهوم الأمن بعد التطورات المذهلة والمتتالية في تقنيات الطائرات المسيرة.
- عُمان ربطت كل ما حدث وما سيحدث في المنطقة بالقضية الفلسطينية عامة، وبمفصلها الغزاوي المأساوي خاصة.
وقد جاء موقف مجلس الشورى العُماني خلال الجلسة الرابعة لدور الانعقاد السنوي (2023- 2024) مُتماهيًا مع الموقف الحكومي من حيث قوته وقلقه من تطورات ما بعد قصف اليمن، فقد اعتبر القصف اعتداءً ظالمًا على اليمن، كما اعتبر ما يجري في غزة من قتل وإبادة الآلاف بدعم كامل ومطلق من دول الاعتداء على اليمن، أنها تتم "بضمير ميت ومشاعر لا إنسانية"، وعرّى ما تنادي به من حقوق الإنسان، ورأى أنها لا تعدو كونها وسائل تستخدمها لحماية مصالحها المادية متى ما أرادت ذلك. وهنا تعبر السلطنة حكومة وشعبًا- كون مجلس الشورى يمثل الشعب- عن قلقها البالغ من استخدام القوة في اليمن ومن تطوراتها المُقبلة.
فعلى ماذا تراهن واشنطن ولندن في خيارهما العسكري؟ وكيف استبعدتا الحل الدبلوماسي؟ وهناك تساؤل آخر يتحتم طرحه هنا، وهو: هل حقق القصف الأمريكي البريطاني على اليمن غاياته؟ بصيغة أخرى، هل سيشل قدرة اليمنيين على استهداف الملاحة الجوية وضرب الكيان الصهيوني؟
هنا ينبغي الإشارة إلى أن هذه القدرة لم تضعفها عمليات قصف منذ أكثر من سبع سنوات من قبل قوات التحالف، فكيف من خلال قصف ساعات مهما كانت كثافته؟
تتعاظم المخاوف من حرب جديدة في البحر الأحمر، ومن انفجار المنطقة من مفاصل جيوسياسية متعددة، فجماعة أنصار الله اليمينة تعتبر كل الأهداف الأمريكية والبريطانية مُستهدفة، والمؤشرات تشير إلى أن واشنطن ولندن ستندمان على خيار القوة في اليمن، وعدم الاستماع لنصائح عُمان.. وهذا يُرجعنا إلى ما نُرجِّحه في بعض مقالاتنا السابقة، وهو غياب إعمال الفكر الاستشرافي، فلو كانت واشنطن ولندن تُفعِّلانه لاستفادت من تجاربها عندما انتصرت عليها جماعات مسلحة في أفغانستان والعراق، وتم طردهما منهما بصورة مخزية؛ لذا نرى أن قصف اليمن مغامرة، في توقيت تشتعل فيه المنطقة نتيجة المذابح الصهيونية في غزة، واستمرار عدوانهم الوحشي.
ولو تأملنا في أغلب البنيات الديموغرافية والفكرية والآيديولوجية للمنطقة، فسنجد أن العدوان الصهيوني المستمر على غزة ومذابحه التي تستهدف الأطفال والنساء، والانحياز الأمريكي الأعمى للصهاينة، قد وحَّد شعوب المنطقة وجماعاتها رغم اختلافاتها الفكرية والآيديولوجية، ولا يمكن لواشنطن ولندن الرهان على تناقضات هذه الجماعات. واستشرافًا، فإن أحداث غزة الوحشية وتطور استعمال القوة في اليمن يُعمِّقان قضية الثأر عند هذه الجماعات، وقد تُعجِّل بتحوُّل جماعات آيديولوجية إلى العنف، فوعيها الجديد يترسخ الآن على مبدأ امتلاك القوة، وليست أي قوة، إنها القوة التي تُجبِر الآخر على الاعتداد بها، وتحقيق النصر، وهذا ما نحذر منه في الكثير من مقالاتنا، خاصة في المناطق والدول التي تكون فيها الحكومات ضعيفة أو غير موجودة.
وعلى صعيد تلكم البُنيات الإقليمية، تظهر واشنطن ولندن الآن في وضع العدو المشترك للشعوب والجماعات في المنطقة؛ فحالة العداء تتأصل في سيكولوجيات البنيات الاجتماعية والجماعات الآيديولوجية والفكرية، وتتطور بصورة دراماتيكية مذهلة، وتشمل كذلك سيكولوجيات الأطفال والشباب؛ مما يعطي لحالة العداء صفة الاستدامة المستقبلية. ولا يبدو لنا أن هناك رصدًا أمريكيًا وبريطانيًا لهذه التحولات البنيوية، فلو كانت كذلك، لكانت درجة استماعهما السياسي لتحذيرات ونصائح سلطنة عُمان لها الأولوية الكبرى.
إنَّنا نُرجِع بعض أسباب ذلك إلى طبيعة النُخب السياسية التي يأتي بها النظام الديموقراطي إلى صناعة القرار، ولا اختلاف هنا بين أي نظام غربي، فهي تأتي للسلطة بعد سقوطها الأخلاقي، ويكون جُلُّ همِّها طوال سنواتها في السلطة جمع الثروات مقابل تحقيق أجندات خاصة؛ لذلك نشهد فيها حالات الجشع والطمع، وتظهر على شخصياتهم الأنانية والجلف "أي يتصفون بالحمق وغلظ الطباع"، وتبدو مواقفهم وقراراتها غبيّة، ولا تمت للإنسانية بصلة.. وغزة نموذجًا؛ إذ إن 70% من شهداء غزة من الأطفال والنساء من مجموع يزيد عن 23 ألف شهيد، وكفى بهذا النوع الاجتماعي مُسوِّغًا لتحريك الضمائر، هذا لو كانت حية؟!
ومن تلكم الحيثيات الاستقرائية، عبّرت سلطنة عُمان في بيانها بأنها تتابع وبقلق بالغ تطورات القصف الأمريكي البريطاني على اليمن، وأعربت عن استنكارها اللجوء للعمل العسكري؛ بينما "تتمادى إسرائيل في قصفها وحربها الغاشمة وحصارها لقطاع غزة دون حساب أو عقاب". هنا تضع عُمان القضية بين هاتين المفارقتين في تشخيص دقيق وبليغ ومُقدَّر للمشهدين المُتعارضين؛ لأنه يحترم العقل، ويُعزز البراجماتية العُمانية في الأحداث الكبرى، ويضع ما تخشاه عُمان من تطورات مُقبلة للقصف الأمريكي البريطاني على اليمن المجاور لها، في قمة المسؤولية الإقليمية والدولية.
هنا يتجلى الربط السياسي- الذي أشرنا إليه سابقًا- لأن أصل القضية يتمثل في استمرار العدوان على غزة والمذابح الجماعية التي يرتكبها الاحتلال هناك، وما سيحدث خارج غزة ليس سوى نتيجة موضوعية ينبغي أن تتوقعها واشنطن ولندن من الشعوب والجماعات الآيديولوجية والفكرية المسلحة.
هذا التشخيص العُماني يُظهر أن واشنطن ولندن تكيلان بمكيالين يصنعان صيرورات عنف إقليمية واسعة، قد تُؤسِّس حقبة العشرين سنة المُقبلة، وقد جاء تصريح سعادة الشيخ خليفة بن علي بن عيسى الحارثي وكيل وزارة الخارجية للشؤون الدبلوماسية مُستنطقًا هذه الازدواجية المُثيرة، وذلك عندما قال: "إصابة بعض السفن التجارية حرَّكت أسلحة وطائرات العالم الغربي (الحر)، بينما إبادة إسرائيل لأكثر من عشرين ألف فلسطيني لم تُحرِّك ضمائرهم حتى لإصدار بيانات لوقف إطلاق النار". فلا غرابة في هذه الحالة أن تُبدي عُمان قلقها المُرتفع من تطوُّر قصف اليمن في ظل هذه الازدواجية المُستفزة، وهو قلق يُملي عليها مسؤوليتها التاريخية كدولة إقليمية جيوسياسية، لا يمكن أن تُجامل دولا كبيرة أو صغيرة في قضايا الأمن الإقليمي. من هنا جاء بيانها شديد اللهجة ومواقف مسؤوليها على مستوى الحدث، واضعين النقاط فوق الحروف، ومُسمِّين الفاعلين بذواتهم المعنوية وبصريح العبارة، وهذا لن يحدث الآن إلّا في سلطنة عُمان.